رجل في حياته سجَّل كثيرًا من عقاراته للذكور من أولاده، السؤال: هل تبقى هذه العقارات للأبناء؛ وليس للبنات نصيب منها؟
فتوى رقم 4705 السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أريد الاستفسار بشأن هذه المسألة: رجل في حياته سجَّل كثيرًا من عقاراته للذكور من أولاده، بعقود قانونية أبقاها في حوزته، وكان هو يستفيد من عائدات هذه العقارات من دون أن يمكِّن أولادَه منها. ولم يسجِّل شيئّا من عقاراته لبناته. وعند وفاته تمسّك الذكور بهذه العقود حين صارت في حوزتهم، وأرادوا اعتبارها نافذة شرعًا. فما الحكم الشرعي في ذلك، لو سمحتم؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بدايةً، فإن: “الهبة تصير ملكاً للموهوب له عند جمهور -أكثر- الفقهاء بالقبض، والقبض الحقيقي بالنسبة للعقارات يكون بالتخلية بينه -الموهوب له- وبين الموهوب، وذهب المالكية والحنابلة بأن ملكية الشيء الموهوب في غير المنقول تصير للموهوب له بمجرد العقد -الإيجاب والقبول- وما القبضُ إلا أثراً من آثار العقد يلزم الواهبَ تنفيذُه”. الموسوعة الفقهية (42/147) بتصرُّف يسير. لكن القبض اليوم لغير المنقول كالعقارات -أراض، شقق سكنية، ..-، يكون بتسجيله باسم الموهوب له؛ لأن هذا التسجيل يتمُّ في الدوائر العقارية الرسمية التي توثِّق الملكية وهي معتمدة ومقرَّرة في القضاء -كما هو متعارف عليه في كثير من البلاد، ومنها لبنان-، وتثبت بذلك الملكية الشرعية والقانونية في البلاد التي تعتمد التوثيق لعقود التملُّك للأراضي ونحوها.
وننبه هناإلى أنَّ كلامنا هذا منصرف إلى عقود بيعٍ مستوفية الشروط، التي تجعل الملكية لتلك الأرض من حقِّ المشتري. يقول العلَّامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقا الحلبي الحنفي -رحمه الله تعالى- في كتابه “المدخل الفقهي العام” (1/ 656، ف 345) ما نصُّه: “يجب الانتباه اليوم إلى أنه في البلاد التي يوجد بها سجلٌ ونظام عقاريَّان؛ بحيث تكون قيود السِّجل هي المعتبرة في ثبوت الحقوق العَقارية وانتقالها -كما في بلادنا- يُعتبر تسجيل بيع العَقار في صحيفته من السِّجل العَقاري في حكم التسليم الكافي، ولو كانت الدارُ مشغولةً بأمتعة البائع، أو بحقوق مُستأجِر؛ ذلك لأنَّ قيد السِّجل عندئذ يُغني عن التسليم الفعلي، ويقطع علاقة البائع فيصبح أجنبيًّا، وعلى هذا استقر اجتهاد محكمة التمييز السورية، وإذا ظلَّ بائع العَقار شاغلاً له بعد التسجيل وممتنعاً عن تفريغه وتسليمه تُنزع يدُه عنه بقوة القضاء، كما لو شغله غصباً بلا حقٍّ بعد التسليم”. انتهى. ويقول العلَّامة الدكتور عبد اللطيف فرفور -رحمه الله تعالى- في بحثه المقدَّم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي بعد أن نقل كلامَ الفقيه الدكتور مصطفى أحمد الزرقا رحمه الله تعالى: “وهذا عند فقهاء الشريعة من المصالح الـمُرْسَلة التي تحقِّق مصلحةً عامة فاعتُبِرَتْ عندهم وصار الحكم الشرعيُّ في هذه المسألة هو الحكم القانونيُّ ذاته. أما التسجيل بكاتب العدل فليس له هذا الاختصاص ولا قوَّته فلا يأخذ حكمه ولا يكون وحده تسليمًا ولا قبضًا ما لم تصحبه التخلية المعتبرة أو إحدى صور القبض السابقة، بَيْدَ أنه يكون مُثْبِتًا للعقد تجاه الغير بمنزلة الإشهاد، فهو بَيِّنَةٌ وليس تسليمًا ولا قبضًا.” انتهى. واعتمدت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية -وهي تضمُّ كبار العلماء المتخصِّصين في المعاملات المالية- في كتاب : “المعايير الشرعية” (1/498) الصادر عنها، اعتمدَتْ ما قاله الفقيه الدكتور مصطفى أحمد الزرقا رحمه الله. أما لو كان العقدُ عقدَ هبةٍ في حالة الحياة ولم يتمَّ انتقال الملكية بالقبض الذي ذكرناه سابقاً، أو كانت تلك العقود تتضمَّن الملكية بعد الموت (يعني أنَّ التمليك مشروط بما بعد الموت)- وهي قانوناً في لبنان معتمدة- لكنَّها من الناحية الشرعية المتعلقة بالمسلمين -المحاكم الشرعية السُّنِّية- تُعتبر وصيةً لوارث، والأصل أنه لا وصيةَ لوارث ولو بأقل من الثلث؛ لأنه صاحب فرض وارث؛ -لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: “إن الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث“. رواه أحمدُ وأصحاب السُّنن بسند صحيح.- إلا إذا أجاز الورثة ذلك؛ بمعنى: أنهم وافقوا على هذه الوصية فإنها تنفذ حينئذ، وذلك باتفاق مذاهب الأئمة الأربعة بشرطين:
الأول: أن يكون الـمُجِيز (الوريث) من أهل التبرُّع -أي بالغًا عاقلًا غير محجور عليه لسَفَهٍ أو عَتَهٍ أو مرضِ موت، وأن يكون عالماً بالموصَى به (مقدار الوصية).
الثاني: أن تكون الإجازة بعد موت الموصِي (المورِّث)، على اختلاف في بعض التفاصيل.
ودليل ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: “لا وصية لوارث إلا أن يُجِيزَ الورثة“. رواه الدارقطنيُّ في سننه. وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة“. ويُفهم من سياق السؤال أن بعض الورثة -وهنَّ البنات- غير موافقات، فإن الوصية تُعتبر باطلة، وتعتبر ملكية العقارات للموصى لهم -الأولاد- الذكور – غير مستوفية لشروط التملُّك، فالواجب حينئذ أن تُقْسم بين الورثة بمقتضى أحكام الميراث.
وعليه: فإن كانت العقود المذكورة عقوداً مستوفية شروط التملُّك المعروفة في بلادنا، وهي أنها عقود بيع تمَّ تسجيلها في الدوائر العقارية في حياة الوالد -الأب- وهو في كامل الأهلية الشرعية، فهي من حقِّ الأولاد الذين تمَّ تسجيل تلك العقارات بأسمائهم، وإلا بأنِ اختلَّ شرط مما ذكرناه أو كانت تحت مسمَّى الوصية فلا تَصِحُّ، إلا بما ذكرناه من رضا الورثة كلِّهم بذلك. والله تعالى أعلم.