هل يجوز إقامة جمعتين في مسجد صغير لا يتسع لكلِّ المصلِّين

فتوى رقم 4928 السؤال: السلام عليكم، هل يجوز إقامة جمعتين في مسجد صغير لا يتسع لكلِّ المصلِّين وهو المسجد الوحيد في المدينة إلى جانب جمعة أخرى في مسجد أصغر منه للإخوة الأتراك؟ وهل تجوز خطبة و صلاة الجمعة الأولى قبل دخول وقت الظهر؟ جزاكم الله خيراً.

الجواب، وبالله تعالى التوفيق:

بالنسبة للسؤال الأول: وهو هل يَصِحُّ إقامة صلاة الجمعة في المسجد مرتين، وهذه المسألة معمول بها في بعض دول أوروبا وأمريكا، أما في بلاد المسلمين فلا يَصِحُّ ذلك لعدم توافر دواعيها. وهذه المسألة تمّت مناقشتها والإجابة عنها في المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يضمُّ نخبةً من علماء المسلمين المقيمين في أوروبا تحت رقم 3/21، وهذا نصُّ الفتوى:”الجواب: تناول الفقه الإسلامي منذ القديم مسألة إقامة الجمعة في أكثر من مسجد في البلد الواحد، حيث اقتضى توسُّع المدن إلى أن تتعدَّد المساجد، وبالتالي تتعدَّد الجمعة بحسبها. فكانت اجتهادات الفقهاء بين مانعٍ مطلقاً، وبين مَن يرى أن الجمعة هي التي تُقام في المسجد العتيق، وبين مَن يرى أنها للأسبق، حتى أن الإمام السبكيَّ -رحمه الله- أصدر فتوى بعنوان: “الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد”. وسبب الخلاف في ذلك انتفاء وجود نصٍّ آمرٍ أو ناهٍ في المسألة، فكانت اجتهادات الفقهاء تميل الى المنع سدّاً لذريعة الفتنة والتفرُّق والاختلاف. واليوم تعدَّدت المساجد الجوامع في المدينة الواحدة، واقتضت الحاجةُ ذلك، وزال المحذور. ومثل ذلك قضية السؤال؛ فتارة لضيق المكان وكثرة المصلِّين، وتارة لتعذُّر اجتماع الناس في وقت واحد، كما هو حاصل بحكم طبيعة التزام الناس بأعمالها ووظائفها في أوروبا، والمساجد قليلة في البلدة الواحدة، فإنّ المجلس لا يرى مانعاً من تكرُّر إقامة الجمعة في المسجد الواحد، ما وُجِدَ السببُ الدافع لذلك، كالذي تقدَّم من ضيق المكان، أو تعذُّر الاجتماع. والمنع من ذلك مفسدة؛ إذ يُحرَم كثير من المسلمين من أداء هذه الفريضة التي تُعَدُّ من الشعائر العظيمة في الإسلام، ولها مقاصدُ حاجيَّة، كاجتماع المسلمين وتأليف قلوبهم، وحصول التعارف بينهم، مع ما يتحقق فيها من التوجيه والوعظ والتعليم. لكن ينبِّه المجلس على ضرورة أن يَرعى تكرارَ الجمعة في المسجد الواحد إدارةُ المسجد أو المركز، وهي التي تقرِّر ما يحقِّق ذلك، كاختيار الإمام والوقت. والأَوْلى أن تُصلَّى الجمعة الأخرى بإمام آخر غير الإمام الأول، إلا إذا تعذَّر، فلا حرجَ في أن يُقيمها الإمامُ الأول، فقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يصلِّي العشاء خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم يعود الى مسجد قُباء فيؤمُّ الناسَ في صلاة العشاء”. انتهى.

أما بالنسبة للسؤال الثاني: فهذه المسألة -وهي تأدية صلاة الجمعة قبل دخول وقت الظهر؛ أي قبل زوال الشمس عن وسط السماء- هي من المسائل الـمُختلَف فيها بين الأئمة الفقهاء المجتهدين، وهي مسألة معروفة بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقد أشبعها بحثاً كثير من الفقهاء، منهم الإمام النوويُّ -رحمه الله تعالى- في كتابه “المجموع شرح المهذَّب” (4/510و511). وأيضاً ذُكرت المسألة في “الموسوعة الفقهية الكويتية” (27/197).

وملخَّص المسألة: أن ما عليه الجمهور -أي أكثر العلماء- من الحنفية والمالكية والشافعية، أنَّ وقت صلاة الجمعة يبدأ بدخول وقت الظهر -أي بعد زوال الشمس عن وسط السماء- وينتهي بدخول وقت العصر، ولهم على ذلك أدلة كثيرة. وذهب الحنابلة -في المعتمد عندهم- أن وقت صلاة الجمعة يبدأ بدخول وقت صلاة العيد -أي بعد شروق الشمس بمقدار رمح- وينتهي بانتهاء وقت الظهر. واحتجَّ الحنابلة بأحاديثَ: منها حديث جَابر رضي الله عنه، قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ“. رَوَاهُ مُسْلِمٌ في صحيحه. وحديث سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه، قَالَ: “كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ“.  رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم في صحيحَيْهما. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:  “نُجمِّعُ –أي: نصلِّي الجمعة– مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ”. وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَذَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم“. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صحيحَيْهما واللفظ لمسلم. وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ رضي الله عنه، قَالَ: “شَهِدْتُ الجمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: زَالَ النَّهَارُ، وَلَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ، وَلَا أَنْكَرَهُ”. رَوَاهُ الإمام أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ في سننه، وَغَيْرُهُمَا.

وعليه: فما تقوم به بعض المساجد في أوروبا والغرب من تأدية صلاة الجمعة قبل دخول وقت الظهر هو موافق لمذهب الحنابلة، ولا مانعَ من الأخذ به -خاصة إذا كان فيه تيسير على المسلمين هناك-، وهو قول مُعتبَر -فقهاً- لا يُنْكَرُ على مَن يَأْخُذُ به. والله تعالى أعلم.

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *