ما حكم الصلاة بين السواري؟
فتوى رقم 4863 السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الفاضل ما حكم الصلاة بين السواري (أعمدة المسجد) للمنفرد والمؤتمّ؟ وما نصيحتكم للإخوة الذي يشوِّشون على المصلِّين، ويثيرون شغباً حول هذه المسألة في المساجد. وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بداية، بالنسبة لحكم الصلاة بين السواري للمنفرد أو للإمام ، لا مانعَ منه ولا أعلم فيه خلافاً، وقد عنون البخاريُّ في صحيحه بقوله: “بَاب الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ”، وأورد حديثَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ :”دَخَلَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ، وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ، فَسَأَلْتُ بِلَالًا: أَيْنَ صَلَّى؟ قَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ.“وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى، وَقَالَ لَنَا إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، وَقَالَ: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ“. قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ -رحمه الله- في كتابه “فتح الباري” (1/ 688و689):” إنما قيَّدها بغير الجماعة؛ لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب”. انتهى.
وعليه: فصلاة الإمام أو المنفرد بين السواري لا خلافَ في جوازه.
أما بالنسبة لصلاة الجماعة -المأموم – بين السواري، فللفقهاء فيه تفصيل. روى أبو داود والترمذيُّ في سننَيْهما من حديث عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: “صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدُفِعْنَا إِلَى السَّوَارِي، فَتَقَدَّمْنَا وَتَأَخَّرْنَا، فَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.” وقال الترمذيُّ: “حديث أنسٍ حديثٌ حسن، وقد كره قوم من أهل العلم أن يُصَفّ بين السواري، وبه يقول أحمد، وإسحاق. وقد رخَّص قوم من أهل العلم في ذلك” انتهى . وقد سُئل الإمام الرمليُّ الشافعيُّ -رحمه الله- في كتابه الفتاوى (1/232): “هل يُكره للإنسان أن يصلِّيَ بين عمودين من أعمدة المسجد؟ فأجاب: بأنه لا تُكره الصلاة المذكورة، سواء كان المصلِّي منفرداً، أم إماماً، وكذا المأموم، إلا أن يكون منفرداً عن الصف” انتهى. وفي بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمّة من العلماء المتأخرين (1/503) ما نصُّه: “(مسألة: ب): الصلاة بين السواري في الجماعة تقطع الصف واتصالُه مطلوب، قال المحبُّ الطبريُّ: وكره قوم الصفَّ بين السواري؛ للنهي الوارد في ذلك، والحكمة فيه: إما لانقطاع الصف، أو لأنه موضع النعال، وقال القرطبيُّ: روي في سبب كراهته أنه مصلَّى مؤمن الجن انتهى… ورأيت معزوّاً للسيد عمر البصري: (لو تخلَّل الصفُّ أو الصفوفُ سواريَ.. وقف مُسامِتاً لها، لم تُعَدَّ فاصلاً لاتحاد الصف معها عُرفاً) انتهى. وقال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ -رحمه الله- في كتابه “فتح الباري” (1/747): “قال المحبُّ الطبريُّ: كره قوم الصفَّ بين السواري؛ للنهي الوارد عن ذلك، ومحلُّ الكراهةِ عند عدم الضِّيق..”. انتهى. وقال الإمام النوويُّ -رحمه الله تعالى- في شرحه على صحيح مسلم (4/226): “وَأَمَّا الصَّلَاةُ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ -السواري- فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كَرَاهَتِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَسَبَبُ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّفَّ، وَلِأَنَّهُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ قَرِيب”.انتهى. وقال الإمام الزركشيُّ الشافعيُّ -رحمه الله- في كتابه “إعلام الساجد بأحكام المساجد” (ص381): “وأجازه الجمهور” انتهى. قال العلَّامة المرداويُّ الحنبليُّ في “الإنصاف” (2/ 299): “(ويُكره للمأمومين الوقوفُ بين السواري إذا قطعت صفوفهم). وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، وهو من المفردات، وعنه لا يُكره لهم ذلك كالإمام، وكالمنبر. تنبيه: محلُّ الخلاف: إذا لم تكن حاجة، فإن كان ثَمَّ حاجة لم يُكره الوقوف بينهما. فائدة: قوله: (إذا قطعت صفوفهم) أطلق ذلك كغيره، وكأنه يرجع إلى العُرف، قال ابن منجا- الحنبلي -في “شرحه”: شرَط بعض أصحابنا أن يكون عرض السارية ثلاثة أذرع؛ لأن ذلك هو الذي يقطع الصف، ونقله أبو المعالي أيضًا، وقال في “الفروع”: يتوجَّه أكثر من ثلاثة أو العُرف، ومثَّلَ نظائرَه”. انتهى. وقال العلَّامة الخَرَشِيُّ المالكيُّ في “شرح مختصر خليل” (2/ 28): “الصلاة بين الأساطين وهي السواري مكروهة إذا كان لغير ضرورة، وقيَّده بعضهم بالمصلِّي في جماعة: إما لتقطيع الصفوف، وفيه نظر؛ لقول أبي الحسن: موضع السواري ليس بفرجة. أو لأنه موضع جمع النِّعال. ورُدَّ بأنه محدَث، أو لأنه مأوى الشياطين”. انتهى. وقال الإمام السرخسيُّ الحنفيُّ -رحمه الله- في كتاب “المبسوط” (2/35) : “والاصطفاف بين الأُسطوانتَيْن غير مكروه؛ لأنه صفٌّ في حقِّ كلِّ فريق، وإن لم يكن طويلاً. وتخلُّل الأسطوانة بين الصفِّ كتخلُّل متاعٍ موضوع، أو كفُرجة بين رجلين، وذلك لا يمنع صحةَ الاقتداء، ولا يُوجب الكراهة. “انتهى.
وعليه: فصلاة المنفرد بين السواري مسألة خلافية بين أهل العلم؛ فالجمهور على أن صلاة الجماعة بين السواري لا كراهةَ فيها، واتفقوا على عدم الكراهة حال الحاجة. والله تعالى أعلم.
ونصيحتي لمن يشوِّش على الناس في هذه المسألة، أن يتعلَّموا ويطَّلعوا على أقوال أهل العلم قبل أن يُقيموا الدنيا ولا يُقعدوها في مسائلَ فقهيةٍ خلافية، لا يُنكَر فيها على المخالف.