ما حكم تأجير مئذنة المسجد لوضع جهاز إرسال للإنترنت أو الاتصالات؟
فتوى رقم 4770 السؤال: ما حكم تأجير مئذنة المسجد لوضع جهاز إرسال للإنترنت أو الاتصالات؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بدايةً، فإنَّ للمسجد خصوصية في الإسلام، فلا ينبغي أن نتعامل مع المسجد كما نتعامل مع أي بناء آخر، قال الله تعالى في القرآن الكريم: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) ]سورة النور الآيتان٣٦-٣٧[. وقال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)] سورة الجن الآية: ١٨[، ومعلوم أنَّ للمساجد أحكاماً مختصَّة بها، وآداباً ينبغي التمسُّك والالتزام بها حتى يبقى للمسجد حرمته وهيبته في نفوس المسلمين، وقد ألَّف العلماء قديماً كتباً خاصة بأحكام المساجد وآدابها؛ منها كتاب “إعلام الساجد بأحكام المساجد” للإمام بدر الدين الزركشيِّ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى-، لذا فإن المسلم يُمنع من فعل أمور كثيرة في المساجد، مع أنه يجوز فعلها خارج المساجد. تُنظر الموسوعة الفقهية (37/201-229). وقد وردت نصوص وآثار تدل على أن للمسجد أحكاماً خاصة، منها: ما ثبت في الحديث الذي رواه مسلمٌ في صحيحه عن بُريدةَ رضي الله عنه، أن رجلاً أنشد ضالَّته – أي طلب ضالَّــةً له- في المسجد، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “مَنْ دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدْتَ، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له”. ومنها حديث البخاريِّ ومسلمٍ في صحيحَيْهما -واللفظ لمسلم- عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: “بيْنَما نَحْنُ في المَسْجِدِ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ. إذْ جاءَ أعْرابِيٌّ فَقامَ يَبُولُ في المَسْجِدِ، فقالَ أصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: مَهْ مَهْ، قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حتَّى بالَ، ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم دَعاهُ فقالَ له: إنَّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ، ولا القَذَرِ إنَّما هي لِذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ، أوْ كما قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قالَ: فأمَرَ رَجُلًا مِنَ القَوْمِ فَجاءَ بدَلْوٍ مِن ماءٍ فَشَنَّهُ عليه”. ومنها ما رواه البخاريُّ في صحيحه من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه، قال: “كنت نائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأْتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ أو مِنْ أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم“. ونقل العلَّامة بدر الدين العينىُّ -رحمه الله تعالى- في كتابه “عمدة القاري” (٦/٢٧٠) عن الفقيه الشافعيِّ المحبِّ الطبريِّ -رحمه الله- قولَه: “إن الأصل في المساجد تنزيهُها عن اللَّعب فيُقتصر على ما ورد فيه النَّص”. انتهى. قال الإمام القرطبيُّ -رحمه الله تعالى- في تفسيره (١٢/٥٦ ): “قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم… فشعائر الله أعلامُ دينِه لا سيَّما ما يتعلق بالمناسك …” انتهى. والمسجد يدخل في مسمَّى شعائر الله، قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال) [سورة النور الآية: 36]. وقد أورد العلَّامة مُحَمَّد بن إسماعيلَ الرَّشيد الحَنَفِيُّ -رحمه الله- في رسالته: “ألفاظ الكفر” (ص 27،30) أقوالَ الأحنافِ في مسألةِ الاستخفاف بالمسجد قال: “وفي (يتيمة الفتاوى): مَن استخَفَّ بالقُرآنِ، أو بالمسجِدِ، أو بنحوه مِمَّا يُعَظَّمُ في الشَّرعِ كَفَر”. انتهى .
والسؤال الذي يُطرح بالنسبة لمئذنة -منارة- المسجد، هل لها حكم المسجد أم ليس لها حكم المسجد؟ معلوم أنه لم يكن لمسجد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم منارة يؤذِّن عليها المؤذِّن، وإنما كان بلال -رضي الله عنه- يؤذِّن على بيت قريب من المسجد، روى أبو داود في سننه عن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن امرأة من بني النَّجار قالت: “كان بيتي منْ أطولِ بيتٍ حولَ المسجدِ وكان بلالُ يؤذِّنُ عليهِ الفجرَ فيأتي بسَحَرٍ فيجلسُ على البيتِ ينظرُ إلى الفجرِ فإذا رآهُ تمطَّى، ثم قال : اللهمَّ إني أحمدُكَ وأستعينُكَ على قريشٍ أن يُقيموا دِينَكَ. قالتْ: ثم يُؤذِّنُ. قالتْ: واللهِ ما علمتُهُ كان تركها ليلةً واحدةً، تعني: هذهِ الكلمات”.
والمئذنة إما أن تكون ضمن بناء المسجد، وإما أن تكون خارج بنائه، فإن كانت ضمن المسجد كأن تكون على سطحه -ستأتي هذه المسألة بالتحديد- أو مُلحقة ببناء المسجد مثلاً، فيكون حكمها حكم المسجد تماماً من حيث الاعتكاف وشرط الطهارة من الحدث الأكبر للمكث فيها ونحو ذلك. وقد نصَّ الفقهاء في كتبهم على هذه المسألة، فالذي عليه جمهور الفقهاء -الحنفية والشافعية والحنابلة -أنَّ المئذنة تأخذ حكم المسجد، إذا كانت ضمن بنائه. جاء في كتاب المبسوط للسَّرَخْسِيِّ الحنفيِّ -رحمه الله -(3/140و141): “وصعود المعتكف على المئذنة لا يُفسد اعتكافَه، أما إذا كان باب المئذنة في المسجد فهو والصعود على سطح المسجد سواء، وإن كان بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول: هذا قولهما -أي الصاحبان القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن-، فأما عند أبي حنيفة -رحمه الله- فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من غير ضرورة، والأصحُّ أنه قولهم جميعًا” انتهى.
وجاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي الحنفي (2/229): “وفي فتاوى قاضي خان والولوالجي: وصعود المئذنة إن كان بابها في المسجد لا يفسد الاعتكاف”. انتهى. وقال الإمام النَّووي الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه “المجموع” (6/344): “أن تكون -أي المنارة- مبنيةً في المسجد أو في رحبته، أو يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به، فلا يضرُّ المعتكفَ صعودُها، سواء صعدها للأذان أو غيره كسطح المسجد، هكذا قال الجمهور أنه لا فرق بين أن تكون المنارة في المسجد أو رحبته أو بابها متصلاً بالمسجد أو رحبته، وإن كانت خارجة عن سَمْتِ البناء وتربيعه فلا يبطل الاعتكاف بصعودها بلا خلاف، سواء صعدها المؤذِّن أو غيره، هكذا صرَّح به الأصحاب واتفقوا عليه”. انتهى. وقال الفقيه ابن حجر الهيتميُّ الشافعيُّ في كتابه “تحفة المحتاج” (2/313 ): “(وإذا جمعهما مسجد) ومنه جداره ورحبته وهي ما حُجر عليه لأجله، وإن كان بينهما طريق ما لم يتيقن حدوثها بعده وأنها غير مسجد، ومنارته التي بابها فيه أو في رحبته لا حريمه وهو ما يهيأ لإلقاء نحو قمامته”. انتهى. وقال ابن مفلح الحنبلي في كتابه”الفروع” (5/139): “والمنارة التي للمسجد، إن كانت فيه أو بابها فيه فَهِي منه، بدليل مَنعِ جُنُبٍ”. انتهى.
وأما إن كانت المئذنة خارج المسجد ففيها تفصيل فإن كان بابها ينفذ في المسجد أو ينفذ خارج المسجد، فالذي عليه المالكية والشافعية والحنابلة أنها لا تأخذ حكم المسجد. قال الإمام النوويُّ الشافعيُّ -رحمه الله- في كتابه “المجموع” (6/345) أثناء ذكره لأحوال المنارة: “الحال الثاني: أن لا يكون بابها في المسجد ولا رحبته المتصلة به بل تكون منفصلة عنهما، فلا يجوز للمعتكف الخروج إليها لغير الأذان بلا خلاف -عند الشافعية-“. انتهى. وقال الإمام الباجي المالكي في المنتقى شرح الموطأ (2/80): “وهل يؤذِّن المعتكفُ في المنار أم لا؟ اختلف في ذلك قول مالك رحمه الله ، فمنع منه مرةً، وأباحه أخرى؛ وجه منعه أنه مِنْ غير المسجد، فلم يمكن الخروج إليه لحاجة يمكن الإتيان بها في المسجد،كما لو خرج للأكل. ووجه الرِّواية الثانية: أن هذا معنًى يُراد للصلاة فلم يبطل الاعتكاف بالخروج إليه كالطهارة”. انتهى.
قال ابن مفلح الحنبلي في كتابه” الفروع” (5/140): إن كان بابها (أي المنارة) خارجاً منه بحيث لا يستطرق إليها إلا خارج المسجد… فخرج للأذان، بطل اعتكافه؛ لأنه مشى حيث يمشي جنب؛ لأمر منه بدٌّ، كخروجه إليها لغير الأذان..” انتهى.
وذهب الحنفية إلى أنها تأخذ حكم المسجد، قال الإمام الكاساني في بدائع الصنائع (2/184): “ولو صعد المئذنة لم يفسد اعتكافه بلا خلاف وإن كان باب المئذنة خارج المسجد؛ لأن المئذنة من المسجد، ألا ترى أنه يُمنع فيه كل ما يُمنع في المسجد من البول ونحوه ولا يجوز بيعها فأشبه زاوية من زوايا المسجد”. انتهى.
وأما بالنسبة لسطح المسجد: فقد اختلف أهل العلم في أخذ سطح المسجد لأحكامه على قولين:
القول الأول: أنه يأخذ حكم المسجد، وإليه ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو المنصوص عليه في كتبهم المعتمدة في الفتوى؛ منها: بدائع الصنائع للكاسانيِّ (3/126)، والمبسوط للسَّرَخْسِيِّ 1/243، وحاشية ابن عابدين 2/516، والمجموع للنوويِّ 2/143، وتحفة المحتاج للهيتميِّ 3/464، والمغني للمقدسيِّ 4/472.
القول الثاني: أنه لا يأخذ حكم المسجد؛ وإليه ذهب المالكية، المنتقى لابن رشد المالكي (2/80).
وعليه: فإن المئذنة -تُعتبر في كلِّ الحالات التي ذكرناها- رمزاً للمسجد الذي هو شعار من شعائر الإسلام، وهي تأخذ حكم المسجد مطلقاً على قول السادة الحنفية، وعند غيرهم على تفصيل عندهم. فلا تُعتبر مجرد مبنى مرتفعًا فقط، وإنما هي منارة وشعار ينطلق منها الأذان -نداء التوحيد-، ومن المقرَّر شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله تعالى، وبما أن المئذنة موقوفة للمسجد، فلا يجوز بيعها ولا تأجيرها، فلا يجوز تركيب برجٍ للاتصالات ونحوه من أجهزة النت فوقها أو عليها؛ لأن ذلك يتنافى مع تعظيم المسجد وأحكامه التي ذكرناها، ولما يتضمن أيضاً من إخلال بوقار وهيبة بيوت الله تعالى، والواجب أن تُصان المساجد – والتي منها المآذن- عما يخلُّ بها. والله تعالى أعلم.