كيف سامح رسولُنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم أهلَ الطائف مع أنهم اعتدَوْا عليه باللسان واليد؟ وهل يُعقل أن يَسُبَّ شخص والدَيْ وأقوم أنا بسبِّ والده أيضًا؟

الفتوى رقم 3105 السؤال: السلام عليكم، كيف سامح رسولُنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم أهلَ الطائف مع أنهم اعتدَوْا عليه باللسان واليد؟ وهل يُعقل أن يَسُبَّ شخص والدَيْ وأقوم أنا بسبِّ والده أيضًا؟

الجواب، وبالله تعالى التوفيق:

أخي السائل: ثمة فرقٌ كبير بين العفو عمَّن ظلمك أنت، وعمَّن ظلم أمَّة الإسلام، التي لم يسامح النبيُّ ﷺ فيها المعتدين المعاندين المستكبرين عن قَبول الحقّ، ولهذا أمثلة كثيرة منها ما أخرجه النَّسائيّ في سننه عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: “لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله ﷺ الناس إلا أربعةَ نَفَرٍ وامرأتين، وقال: “اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة”: عِكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خَطَل، ومَقِيس بن صُبَابَةَ، وعبد الله بن سعد بن أبي السَّرْح، فأما عبد الله بن خَطَل فأُدرك وهو متعلِّق بأستار الكعبة (أي: مستجير بها) فاستبق إليه سعيد بن حُرَيْثٍ وعمَّارُ بن ياسرٍ فسبق سعيدٌ عمَّاراً وكان أَشَبَّ الرجلين فقتله، وأما مَقِيس بنُ صُبَابَةَ فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عِكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصفٌ (أي: رياح شديدة) فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تُغني عنكم شيئاً ها هنا. فقال عكرمة: والله لئن لم يُنْجِني من البحر إلا الإخلاصُ -فكذلك- لا يُنْجِيني في البرّ غيره، اللهمّ إنّ لك عليَّ عهداً إن أنت عافَيْتَني مما أنا فيه (أي: أنقذتني من الغرق) أن آتيَ محمَّداً ﷺ حتى أضعَ يدي في يده فلأجدنَّه عفوًّا كريماً فجاء فأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السَّرْح، فإنه اختبأ عند عثمانَ بنِ عفانٍ فلمّا دعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة جاء به حتى أَوْقَفَه على النبيِّ ﷺ، فقال عثمان: يا رسول الله، بَايِعْ عبدَ الله، قال سعد: فرفع النبيُّ ﷺ رأسه فنظر إليه -ثلاثاً- كلّ ذلك يأبى -أي: يمتنع النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم عن قبول مبايعته- فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل النبيُّ ﷺ على أصحابه فقال: “أما كان فيكم رجل رشيدٌ يقوم إلى هذا -أي: إلى عبد الله بن أبي السَّرْح- حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتُلَه؟ فقالوا: وما يُدرينا يا رسولَ الله ما في نفسك؟ هلَّا أَوْمَأْتَ إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنة أَعْيُنٍ”.

وكذلك ما حصل في غزوة بني قريظة، فقد أمر النبيُّ ﷺ بالنزول على حكم سعد فحكم بقتل البالغين منهم. والشواهد كثيرة في السيرة النبويَّة.

وإما أن تتنازل عن حقِّك وتسامح من أخذه فهذا مما رغَّب به الإسلام لتنالَ أجر المتقين الصابرين العافين عن الناس، وتفوز بمعيَّة الله وعونه، كما قال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران الآية: 133]، وقال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [سورة الشورى الآية: 40]، وغيرها من الآيات. وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: “أن رجلًا جاء إلى النبيّ ﷺ فقال: إن لي قرابة أَصِلُهم ويقطعوني، وأُحْسِن إليهم ويُسِيئون إليّ، وأَحْلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: لئِنْ كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم الـمَلَّ، ولا يزال معك من الله ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلك”. وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزّاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله”. وفي سنن ابن ماجه: أنّ النبيَّ ﷺ قال: “مَن كَظَم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيِّرَه في حور العين أيتهنَّ شاء”. وقصة أهل الطائف مع سيدنا رسول الله ﷺ، وغيرها من قصص كثيرة في السيرة النبويَّة تحمل على ما تقدّم.

ولم يمنع الإسلامُ المظلومَ من عدم العفو والصفح عمّن ظلمه ليلقى المذنب ربَّه بما اقترف من الإثم، وكذلك أجاز الاسلامُ الدعاءَ على الظالم، ويدلّ على ذلك ما أخرج البخاريُّ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان النبيُّ ﷺ حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد… يدعو لرجال فيسمّيهم فيقول: اللهمَّ أَنْجِ الوليد بن الوليد وسلمةَ بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشْدُد وطأتك على مُضَر واجعلها عليهم كسنين يوسف”. ويدلّ عليه أيضاً قول النبيِّ ﷺ: “ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتح لها أبواب السماء، ويقول الربُّ عزَّ وجلَّ: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين”. أخرجه الترمذيُّ وابن حبان في صحيحه.

ويُشرع له أيضاً المقاصَّة، ومقابلة السيئة بمثلها دون تجاوز؛ لقوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [سورة الشورى الآية: 40]، وقوله تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة الشورى الآيات: 41-42-43].

ولا شكّ في أن الخيار الأوّل هو أفضل الخيارات؛ لما جاء فيه من الأجر والثواب، ولما يؤكد ذلك أن الآيات والأحاديث التي ذكرناها.

وننبه السائل على أن قوله: هل يُعقل أن يَسُبَّ شخص والدي وأقوم أنا بسبّ والده أيضاً! هو بسبب فهمه الخاطئ، فهذا لم يَقُلْ به أحد من أهل العلم، وفرق كبير بين ردِّ الظلم وأخذ حقّك، وبين أن تجهل وتَظلم كما ظُلمت وجُهل عليك.

والله تعالى أعلم.

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *