ما حكم التعامل مع شخص ماله حرام كله، أو بعضه؟
فتوى رقم 4812 السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما حكم من باع بضائعَ من سوبر ماركت أو ملابس، أو أخذ أقساطاً مدرسية، أو عفشَ بيتٍ أو باع بيتاً، لمن يعمل في بنك ربويٍّ، ولمن أخذ تعويضه من البنك الربويّ؟ هل الكلُّ حرام والمال المأخوذ حرام؛ لأن الأصل أنَّ عمله حرام؟ وهل ثمة مَن يقول بالجواز؛ حيث إن المال الحرام لا يتعلَّق بذمَّتَيْن؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
فقد نصَّ أهل العلم على أن المال الحرام، إما أن يكون حراماً لعينه أو حراماً لغيره، فالحرام لعينه كالمال المسروق وثمن الخمر والرِّبا -أي نفس مال الرِّبا- ونحوه، فهذا حُرمته لعينه، فلا يَحِلُّ أخذُه إذا عُلم أنه عين المال الحرام. وأما الحرام لغيره كالمال الذي نتج عن عقد اختلت شروطه أو مال اقتُرض بربًا ونحوه، وقد ثبت أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتعامل مع اليهود، مع أنهم قوم يأكلون الرِّبا ويتعاملون بها، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيْهما: “أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم اشترى طعامًا من يهوديٍّ إلى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا له من حديد”. واشترى سيِّدنا عثمانُ -رضي الله عنه- بئر رُومة من يهوديٍّ وتصدَّق بها على المسلمين.
واعلم أنّ مَن يعمل في البنك ليس كلُّ عمله حراماً، وليس كلُّ ما يتقاضاه من أجرة محرمة، فماله مخلوط بين الحلال والحرام، وقد اتفق الفقهاء على كراهة إجابة مَن في ماله حلالٌ وحرام،كأكله منه، ومعاملته، وقبول هديته وهبته ونحوه. فقد نصَّ فقهاء المذاهب الفقهية الأربعة على أنه لا يَحْرُمُ التعامل المباح مع مَن في ماله حرام، وإنما يُكره ذلك، ولكن الورع في ترك التعامل معه؛ لما رواه البخاريُّ في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ” كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ”. قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ -رحمه الله- في كتابه: “فتح الباري” (7/154): “قَالَ ابْنُ التِّين: إِنَّمَا اسْتَقَاءَ أَبُو بَكْر تَنَزُّهًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ وُضِعَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْإِسْلَام لَغَرِمَ مِثْلَ مَا أَكَلَ أَوْ قِيمَتَه، وَلَمْ يَكْفِهِ الْقَيْءُ، كَذَا قَالَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَبَا بَكْر إِنَّمَا قَاءَ لِمَا ثَبَتَ عِنْده مِنْ النَّهْي عَنْ حُلْوَانِ الْكَاهِن، وَحُلْوَانُ الْكَاهِن: مَا يَأْخُذهُ عَلَى كِهَانَته”. انتهى. وقد أورد الإمام النوويُّ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- الحديثَ في كتابه: “رياض الصَّالحين”، وبوَّب عليه: “باب الورع، وترك الشبهات”. قال العلًّامة القَليوبي -رحمه الله- من الشافعيَّة في “حاشيته على شرح المحلِّي على المنهاج” (4/263): “لَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ، وَلَا الْمُعَامَلَةُ، وَلَا أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، إلَّا مِمَّا عُلِمَ حُرْمَتُهُ، وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ”. انتهى.
وعليه: فلا مانعَ من التعامل مع مَنْ ماله مخلوط بين الحلال والحرام إلا إن عُلم أنه عين المال الحرام. والله تعالى أعلم.