هل أستطيع أن آخذ قرضاً من البنك الربوي وأشتري بيتاً أسكن فيه أنا وعائلتي؟

فتوى رقم 4746 السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعيش بأستراليا وعندنا شراء البيت مرتفع الكلفة، والإجارات أيضاً، وأنتم تعلمون أنه في بلاد الغرب هناك ارتفاع أسعار البيوت بشكل مستمر، هل أستطيع أن آخذ قرضاً من البنك الربوي وأشتري بيتاً أسكن فيه أنا وعائلتي؟ جزاكم الله خيراً.

الجواب وبالله تعالى التوفيق:

بدايةً، فإنَّ القروض الربوية محرَّمة بإجماع العلماء، وقد يكون ثمة ضروروة أو حاجة تنزَّل منزلةَ الضرورة تُجيز ذلك، مع عدم وجود البديل، خاصة في بلاد الغرب، وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء فتوى في هذه المسألة، ونحن نُحيلكم على هذه الفتوى؛ لأن المجلس المذكور أعلم بواقع المسلمين، وبطبيعة الأنظمة القائمة في أوروبا ومنها أستراليا، وهذا نصُّ الفتوى:

“انعقدت الدورة الرابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن بأيرلندا في الفترة من 18-22 رجب 1420 هـ، الموافق 27-31 أكتوبر 1999 برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي رئيس المجلس، وبحضور غالبية الأعضاء، وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية، ثم تدارس مجموعةً من الموضوعات الواردة إليه، واتخذ بشأنها القرارات المناسبة ومنها: نظر المجلس في القضية التي عمّت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلِّها، وهي قضية المنازل التي تُشترى بقرض ربويٍّ بواسطة البنوك التقليدية. وقد قُدِّمت إلى المجلس عدَّة أوراق في الموضوع ما بين مؤيِّد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:

يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمَّة من حُرْمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تُؤذِن بحربٍ من الله ورسوله، ويؤكِّد ما قرَّرته المجامعُ الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الرِّبا الحرام. يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسَّرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.كما يدعو التجمُّعات الإسلامية في أوروبا إلى أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية؛ لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً، مثل (بيع التقسيط) الذي يُزَاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإنَّ هذا سيجلب لهم عددًا كبيرًا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عددًا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعًا لها في بلادنا العربية تتعامل وَفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها. ويمكن للمجلس أن يساعدَ في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك؛ لتعديل سلوكها مع المسلمين.

وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسَّراً في الوقت الحاضر، فإنَّ المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي، لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألَّا يكون لديه بيت آخر يُغْنِيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وأَّلا يكون عنده من فائض المال ما يمكِّنه من شرائه بغير هذه الوسيلة، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزَيْن أساسيَّيْن:

المرتكز الأول: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات): وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام [الآية: 119]: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَاْ حَرَّمَ علَيْكُمْ إِلَّا مَا اضُطُّرِرِتُمْ إِلَيْه)، ومنها قوله تعالى في السورة نفسها، بعد ذكر محرَّمات الأطعمة: (فَمَنْ اضُطُّرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاْ عَاْدٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُوْرٌ رَحِيْم) [الآية: 145]. ومما قرَّره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزَّل منزلةَ الضرورة، خاصَّة كانت أو عامَّة. والحاجة هي التي إذا لم تتحقَّق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأُمَّة بنصوص القرآن، كما في قوله تعالى في سورة الحجِّ: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ) [الآية: 78]، وفي سورة المائدة: (مَاْ يُرِيْدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [الآية: 6]. والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرجَ هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنًا حقًا. وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزَّل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكمِّلة لها، وهي أن (ما أُبيح للضرورة يقدَّر بقَدْرها)، فلم يُـجِزْ تملُّك البيوت للتجارة ونحوها. والمسكن ولا شكَّ ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتنَّ الله بذلك على عباده حين قال: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوْتِكُمْ سَكَنًا) [النحل: 80]، وجعل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم السكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبّي كلَّ حاجة المسلم، ولا يُشْعِرُه بالأمان، وإنْ كان يكلِّف المسلمَ كثيرًا بما يدفعه لغير المسلم، ويظلُّ سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرًا واحدًا، ومع هذا يظَلُّ المسلم عُرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سِنُّه أو قلَّ دخله أو انقطع يصبح عُرضة لأنْ يُرمى به في الطريق. وتملُّك المسكن يكفي المسلمَ هذا الهمّ، كما أنه يمكِّنه من أن يختار المسكن قريبًا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيِّئ فرصةً للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تُنشئ لها مجتمعًا إسلاميًا صغيرًا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونوا على العيش في ظلِّ مفاهيم الإسلام. كما أن هذا يمكِّن المسلمَ من إعداد بيته وترتيبِه بما يلبّي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكًا له. وهناك إلى جانب هذه الحالة الفردية لكلِّ مسلم، الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلِّيّة خارج دار الإسلام، وهي تتمثَّل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمّة أُخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرِّفة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرَّروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألّا يظلَّ المسلم يكدُّ ويَنْصَبُ طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته.

المرتكز الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني، وهو الـمُفْتَى به في المذهب الحنفي. وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجَّحها ابن تيمية -فيما ذكره بعض الحنابلة-: من جواز التعامل بالرِّبا وغيرِه من العقود الفاسدة، بين المسلمين وغيرِهم في غير دار الإسلام. ويرجِّح الأخذَ بهذا المذهب هنا عدةُ اعتبارات، منها: أن المسلم غير مكلَّف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلّق بالنظام العامِّ في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأنَّ هذا ليس في وسعه، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، وتحريم الرِّبا هو من هذه الأحكام التي تتعلّق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي. وإنما يُطالَب المسلمُ بإقامة الأحكام التي تخصُّه فردًا، مثلَ أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات، وما يتعلّق بالزواج والطلاق والرجعة والعدَّة والميراث، وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضُيِقَّ عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

وأن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة -ومنها عقد الربا- في دار القَوم، سيؤدّي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًا، وخسارته ماليًا، والمفروض أن الإسلام يقوّي المسلم ولا يُضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضرُّه، وقد احتجَّ بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث: «الإسلام يزيد ولا ينقص» أخرجَ أبو داود رقم: (2912)، ومن طريقه: البيهقي (6/205، 254-255) بإسناده إلى عبد الله بن بُرَيْدَة: أن أخوين اختصَما إلى يحيى بن يَعْمَر: يهودي ومسلم، فوَرَّثَ المسلمَ منهما، وقال: حدثني أبو الأسود، أنَّ رجلاً حدَّثه، أنَّ معاذًا حدَّثه، قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «الإسلام يَزيد ولا يَنقص» فوَرَّثَ المسلمَ. وإسنادُه إلى أبي الأسود صحيحٌ، وإنما هو منقطع بين أبي الأسود ومعاذ، لجهالة الراوي بينهما، ويشهد للمرفوع منه حديث عائذ بن عمرو التالي، وهو به حسنٌ لغيره. أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث:»الإسلام يعلو ولا يُعلى») حديث حسنٌ لغيره، أخرجه الرُّوْيَانِيُّ في “مسنده” رقم: (783)، وأبو نُعيم في (أخبار أصبهان) (1/65)، والبيهقي (6/205)، وفي إسناده مجهولان، لكنْ يشهد له حديث معاذ بن جبل المتقدِّم قبله، كما جاء كذلك بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفًا، أخرجه الطحاويُّ في (شرح معاني الآثار) (3/257)، وعلَّقه البخاريُّ في (صحيحه) (1/454-كتاب الجنائز)، وصحَّحه ابن حجر في “الفتح” (9/421). كما يصدِّقه والذي قبله قولُه تعالى: (هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُوْلَهُ بِاْلْهـُدَىْ وَدِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىْ الدِّيْنِ كُلِّه) [سورة التوبة الآية: 33]، [سورة الصف الآية: 9]. وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضَوْنها بينهم، سيُضطَّر إلى أن يعطيَ ما يُطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفِّذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفِّذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغُرم دائماً وليس له الغُنْم، وبهذا يظلُّ المسلم أبدًا مظلومًا ماليًّا، بسبب التزامه بالإسلام! والإسلام لا يقصد أبدًا إلى أن يظلمَ المسلم بالتزامه به، وأن يتركه -في غير دار الإسلام- لغير المسلم يمتصُّه ويستفيد منه، في حين يحرُمُ على المسلم أن ينتفعَ من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم. وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالرِّبا في حالة الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين: الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم. والثاني: ألَّا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم. فالجواب: أن هذا غير مسلَّم، كما يدلُّ عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في “السِّيَر الكبير”، وإطلاق المتقدِّمين من علماء المذهب، كما أن المسلم وإنْ كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد، إذ به يتملَّك المنزل في النهاية. وقد أكَّد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقَدْرِ الأُجرة التي يدفعونها للمالك، بل أحيانًا تكون أقل. ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرَمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبِّر الفقهاء، وربما يظلُّ عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارًا شهرياً أو سنويًا، ولا يملك شيئاً، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة -وربما أقل- أن يملك البيت. فلو لم يكن هذا التعامل جائزًا على مذهب أبي حنيفة ومَن وافقه، لكان جائزًا عند الجميع للحاجة التي تنزَّل أحيانًا منزلة الضرورة، في إباحة المحظور بها. ولا سيما أن المسلم هنا، إنما يُؤكِل الرِّبا ولا يَأكُلُه، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها، والأصل في التحريم مُنْصَبٌ على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن، إنما حرم الإيكال سدًّا للذريعة، كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه، فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد. ومن المعلوم أن أكل الرِّبا المحرَّم لا يجوز بحال، أما إيكاله (بمعنى إعطاء الفائدة) فيجوز للحاجة، وقد نصَّ على ذلك الفقهاء، وأجازوا الاستقراض بالرِّبا للحاجة إذا سُدَّتْ في وجهه أبوابُ الحلال. ومن القواعد الشهيرة هنا: أن (ما حَرُمَ لذاته لا يُباح إلا للضرورة، وما حَرُمَ لسدِّ الذريعة يُباح للحاجة)، والله الموفِّق. القرار 2/4”. انتهى.

وعليه: فإذا توفَّرت الشروط بأنْ لم يكن ثمة بديل من قرض غير ربويٍّ، أو كان بالإمكان شراء بيت بالتقسيط، ولا يوجد الآن مسكن للعائلة، ولا إمكانية في المستقبل القريب لإيجاد ثمن البيت، يعني سُدَّت أبواب الحلال، ففي هذه الحالة لا مانعَ من أخذ هذا القرض؛ لما في ذلك من حاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة. والله تعالى أعلم.

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *