هل يؤاخذ الإنسان إذا نوى وعزم على فعل أمر، ولكن لم يفعله؟
فتوى رقم 4549 السؤال: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، إذا نوى المسلم في قلبه وعزم على أن يترك الإسلام ويعتنق اليهودية، ولكنَّ هذا الشخص قبل فعله الكفرَ وقبل نطقه بلسانه تراجع عن ذلك خوفاً من الله، فهل عليه إثم؟ وهل يكفر بذلك ويخرج من الملَّة؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
أخي السائل، تقول في سؤالك “نويت وعزمت” معناه أن المسألة لم تَعُدْ حديثَ نفس، والنية تدخل في مسمَّى العمل، لذلك ورد في الحديث: “إنما الأعمال بالنيات..” متفق عليه، فالنية والعزم هو قرار اتخذ بالمباشرة بالفعل أو القول، وأبرز مثال على ذلك حديث الصحيحين أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ”. فحرصه يعني نيته وعزمه على قتل أخيه، رغم أنه لم يقتله فعلاً، لكنْ بعزمه ونيته على قتله، لذا كانت في حكم العمل، فأخبر صلَّى الله عليه وسلَّم عنه أنه في النار،
وننبِّه على أنه ربما كنت تقصد بالنية والعزم غير المتعارف عليه عند الفقهاء، وهو مجرَّد وسوسة أو خاطرة تدفعها عن نفسك، فهذا معفوٌّ عنه، كما في حديث مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: “جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ“. وروى مسلم أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ:” سُئِلَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَنْ الْوَسْوَسَةِ قَالَ: تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ” أي: كراهتها واستعظام النطق بها. قال الإمام النوويُّ -رحمه الله تعالى- في شرحه على صحيح مسلم (2/ 154): “أَمَّا مَعَانِي الْأَحَادِيثِ وَفِقْهُهَا فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَلِكَ صَرِيح الْإِيمَان، وَمَحْض الْإِيمَان) مَعْنَاهُ: اسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَامَ بِهِ: هُوَ صَرِيح الْإِيمَان، فَإِنَّ اسْتِعْظَامَ هَذَا، وَشِدَّةَ الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ، فَضْلًا عَنْ اعْتِقَاده: إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا، وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك” انتهى.
وقال الإمام النوويُّ -رحمه الله تعالى- في كتابه: “روضة الطالبين وعمدة المفتين” (10/65): “العزم على الكفر في المستقبل كُفْرٌ في الحال، وكذا التردُّد في أنه يكفر أم لا؟ فهو كُفْرٌ في الحال” وفي “الموسوعة الفقهية” (42/ 307): “ذهب الفقهاء إلى أنه إذا همَّ الشخص المسلم بالكفر، أو شكَّ في الوحدانية أو النبوَّة أو البعث، أو نوى قطع إسلامه، أو تردَّد: أيكفر أو لا، أو عزم على الكفر غدًا أو في المستقبل، خرج من الإسلام وأصبح مرتدًا في الحال ؛ لأن طَرَيَانَ -أي: طروء- الشكِّ يُناقض جَزْمَ النية بالإسلام”. انتهى.
وقال الفقيه ابن حجر الهيتميُّ الشافعيُّ في كتابه: “تحفة المحتاج” (9/106): “(أو عزم على الكفر غداً) مثلاً (أو تردَّد فيه): أيفعله أو لا؛ (كفر) في الحال، في كلِّ ما مرَّ؛ لمنافاته للإسلام …تنبيه: ذكر مسألة العزم ليبيِّن أنه المراد من النية في كلامهم؛ لأنها قصد الشيء مقترناً بفعله، وهو غير شرط هنا”. انتهى. وقال الملَّا علي القاريُّ الحنفيُّ -رحمه الله تعالى- في كتابه: “ضوء المعالي على منظومة بدء الأمالي” (ص111) عند قول الناظم (الفرغاني):
ومَنْ ينوي ارتداداً بعـــــــــــــــــــــد دَهْـــــــــــــــــرٍ يَصِرْ عـــــــــــــــــــنْ دِين حــــــــــــــــــــقِّ ذا انسلال
والمعنى: أنَّ مَن ينوي الارتداد بعد مدة، طالت أو قصرت: يخرج بذلك عن الدِّين الحقِّ، والإيمانِ المطلق في الحال، وإنْ قصد الاستقبال؛ لأن استدامة الإيمان من واجبات الإيقان، كما قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) أي اثبتوا، فإذا أتى بما ينافيها، ولو بالنية: فقد كفر اتفاقاً. ولأن قَصْدَ الكفر ينافي التصديق، ويُزيل التحقيق. ولأنه رضى بالكفر ؛ والرضى بكفر نفسه: كفر، إجماعًا” انتهى.
وعليه: فإن كان المقصود بالنية والعزم المعنى الشرعيَّ الذي ذكرناه، فلا شكَّ في كفر مَن نوى وعزم على الخروج من الإسلام والدخول في اليهودية -وهذا يجب عليه النطق بالشهادتين والتبرُّؤ من ذلك الكفر- وأما إن كان المقصود أن نفسه حدَّثته بذلك، فدفعه عن نفسه خوفاً من الوقوع في الكفر، ومن عقاب الله تعالى، فهذا مجرد وسوسة أو خاطرة يدفعها عن نفسه، فهذا معفوٌّ عنه، وكما ورد في الحديث: “تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ”. والله تعالى أعلم.