ما المقصود في قوله تعالى: (ما ملكت أَيْمانكم)؟
فتوى رقم 4284 السؤال: ما المقصود في قوله تعالى: (ما ملكت أَيْمانكم)؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بدايةً، قبل الخوض في معنى مِلك اليمين، لا بد من توضيح بعض المفاهيم في قضية الرِّق. فمعلوم أن نظام الرِّقِ كان موجوداً ومتجذِّراً في المجتمعات البشرية قبل بعثة سيدنا محمَّد رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فالرّق موجود عند جميع الملل والأمم؛ عند النصارى واليهود والوثنيين والملحدين… وغيرهم. ومع بعثة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَجَدَ الرِّقَ – بوحي من الله تعالى – له نظاماً، فحَفِظَ التشريعُ للرقيقِ إنسانيَّتَه وحقوقَه، وعاقبَ مَن اعتدى عليه وظلمَه، وصحَّحَ العلاقةَ بينَ الرقيقِ وسيّدِهِ، وجعلَ له حقوقًا مُلْزِمة، وسدَّ كلَّ منابعِه الظالمةِ، وفتحَ السُّبُلَ لتقليصه في المجتمعِ، فألغى الإسلامُ كلَّ مصادرِ الرقِّ ولمْ يُبقِ إلَّا على مصدرٍ واحدٍ وهو الاسترقاق في الحربِ للمُحارِبِ فقط، وأمَّا منْ كانَ منَ الأعداءِ في بيتِه لمْ يباشرِ الحربَ ولم يحضرْ أرضَ المعركةِ فلا يَصِحُّ استرقاقُه، فأمر صلَّى الله عليه وسلَّم بمعاملة الرقيق بالعدل والفضل والإحسان، ورغَّب في العتق وجعله سبباً للنجاة من النار، وأَوجب إعتاقهم في كثير من الكفارات ـــ كاليمين، والظّهار، والقتل، وجماع الصائم في نهار رمضان……ـــ قال الله تعالى عن كفارة القتلِ الخطأ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ ) [سورة النساء الآية :٩٢]، وكفارة الظِّهارِ، قال تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) [سورة المجادلة الآية: ٣]، وكفارة اليمين، قال تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [سورة المائدة الآية: ٨٩]،
والأحاديث التي بيّنت فضلَ العتق والترغيبَ فيه كثيرة. منها ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيْهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “منْ أعتقَ رقبةً مسلمةً، أعتقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضوًا من النارِ حتى فرْجَه بفرجِه”. وقال تعالى – ترغيباً في العتقُ عن طريقِ المكاتبةِ -: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ) [سورة النور الآية: ٣٣]، وجعل للعبدِ المكَاتَبِ حقٌ مفروضٌ في الزكاةِ، قال تعالى: (وفي الِّرقاب) [سورة التوبة الآية: 60]، ومنها العتق بسبب الاعتداءِ على الرقيقِ، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “مَنْ ضَرَبَ غلامًا لهُ حدًّا لم يأتِهِ، أو لطمَه فإنَّ كفارتَه أنْ يُعْتِقَه”.
ومنها حديث البخاريّ في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ.”
وحديث البخاريّ أيضاً في صحيحه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. “وحديث مسلمٍ في صحيحه، أن ابن عمرَ رضي الله عنهما أعتق مملوكاً له، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: ما لي فيه من الأجر ما يساوي هذا ! سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: “مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ”.
ونصوص غيرها كثيرة. ومعلوم أن الرِّق في عصرنا غير موجود؛ لاتفاق أمم الأرض على ذلك، فلم يَعُدْ ثمة عبيد ولا إماء، ـــ فالأمم والشعوب والأنظمة القائمة اليوم – المسلمة وغير المسلمة – قد اتفقت على عدم الاسترقاق بل وإلغائه، وهذا لا يتعارض مع الشرع الحنيف، بل الشرع يتشوَّف للتخلُّص من الرقيق، ولا مصلحةَ للمسلمين به اليوم، وهذا لا يعني إبطال أحكام الرِّق إذا وجدت أسبابه، كالجهاد بين المسلمين والكفار، فإن نساء الكفار المـُحاربين لنا هم سبايا تنطبق عليهن أحكام الرق، وملك اليمين بشروط ستأتي، وإنْ أبطلَتْه قوانين أهل الأرض، وأما إذا لم توجد الأسباب الشرعية، فالأصل أن الناس أحرار، قال الفقيه ابن قدامةَ المقدسيُّ – رحمه الله تعالى – في كتابه: “المغني ” (٦/ ٤٠١): الأصل في الآدميِّين الحرية؛ فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحراراً، وإنما الرق لعارض، فإذا لم يُعلم ذلك العارض، فله حكم الأصل”. انتهى.
وقال الإمامُ الشافعيُّ – رحمه الله تعالى – في كتابه: “الأم”: “إنّ أصل الناسِ الحريةُ”. انتهى. إذاً فالرِّق هو عقوبة يقررها الحاكم المسلم ــ (إن كان فيه مصلحة للمسلمين، وإلا كانت عقوبة أخرى كالفداء بالمال أو بالمبادلة بأسرى للمسلمين، أو القتل) ــ لمن حارب المسلمين كما هي عقوبة القاتل والسارق والزاني وشارب الخمر…. يقول الدكتورُ محمد البهي – رحمه الله تعالى – في كتابه: “الإسلام والرق” ص5: “إذا لم يُبْقِ الإسلامُ استرقاقَ الأسيرِ كمبدأٍ، لا يكونُ منهجًا سليمًا لحياةٍ إنسانيةٍ كريمةٍ؛ لأنَّه عندئذٍ لم يشرْ بالأسلوبِ الذي ينطوي على الردعِ للمعتدي الأثيمِ الذي لا ينجحُ معَه اللينُ أو حسنُ الخلقِ… ومبدأُ الاسترقاقِ قائمٌ وباقٍ، لكنْ لا يجبُ الأخذُ به دائمًا، كمَا لا يجبُ التغاضي عنه لمصلحةٍ لا تعودُ على المسلمينَ بالخيرِ”. انتهى.
ونشير إلى أن الرق الشرعيَّ هو في حقيقته إعادة تأهيل لهذا الإنسان الذي أُفْسِدت فطرته فحارب المسلمين، وهذه الحقيقة جعلت جوستاف لوبون يقول في كتابه “حضارة العرب”ص459-460: “الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقَّاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقَّاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة… وأن المَوالي الذين يرغبون في التحرُّر ينالونه بإبداء رغبتهم… ومع هذا لا يلجؤون إلى استعمال هذا الحق”. انتهى. وكلام جوستاف جاء في معرض ذكر عَظمة المسلمين ورحمتهم بالإنسان، بخلاف الاسترقاق لدى الكفار. وباختصار، فإنه لا يوجد في عصرنا هذا رقيق ــ إماء أو عبيد ــ بالمفهوم الشرعي الإسلامي، وإن كان بمفهوم منظمات حقوق الإنسان الرق مازال موجوداً اليوم ــ كالاتجار بالبشر، والعمل القسري أو بالسخرة ونحوه … ويُعتبر هذا في ديننا من المحرَّمات.
وأما بالنسبة للسؤال، فقد ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [سورة المؤمنون الآية: 6]. فمِلك اليمين الوارد في الآية : هن النساء من الرقيق، وهنّ الإماء؛ إذ يحقّ لمالكهنّ ــ السيد ـــ أن يطأهنّ من غير عقد زواج، ولا شهود، ولا مهر، فهنّ لَسْنَ أزواجاً، فإذا حصلت المعاشرة لهن سُمّيْنَ (سراري) جمع: سُرِّيـة ، وتسمَّى أيضاً أَمَة والمعاشرة لها مقيَّد بشروط، وهي التي ليس لها زوج، وليست حاملاً، وأن تكون كتابية، ويترتب على معاشرتها أحكام شبيهة بأحكام الزوجة، فهي تَحْرُمُ على آباء سيِّدها ــ مالكها ــ الذي وطئها وعلى أبنائه إلى الأبد، كما تَحرم زوجة الأب والابن، وإذا ولدت كان ولدها حرًّا، ولا يجوز لسيّدها أن يبيعها بعد ذلك، وتُعتبر حرّةً بمجرّد موت سيِّدها. ويحرم على غير سيّدها أن يطأها؛ لأنها ليست ملكاً لغيره، وإذا لم يطأها سيّدها، أو وطئها ولم تحمل، ثم أراد بيعها جاز له ذلك، لكن ليس لمن اشتراها أن يطأها ما لم يستبرئْها بحيضة، وتختلف في أحكامها عن الزوجة، بأنَّ عدد الرقيقات اللواتي يجوز للرجل أن يملكهن غير محصور بأربع أو أكثر، ولا يجب التسوية بينهن في المبيت، لكنْ يجب على السيد أن يُعِفّ َكلَّ واحدة منهنّ عن الحرام بأن يطأها أو يزوِّجها أو يبيعها. وقد بيَّن فقهاء الشريعة أحكام هذه المسائل في كتب الفقه. فهذه المسائل – للأسف – يظن البعض جهلاً منهم بالشريعة أو طعناً في الإسلام أن المقصود منها هي المتعة الجنسية، وهذا مُجانِب للحقيقة. والله تعالى أعلم.