هل المقصود بالنبي الأُمِّيِّ أنه كان لا يقرأ ولا يكتب أم أن هناك وجوه أخرى للتفاسير؟
فتوى رقم 4119 السؤال: السلام عليكم، ما الدليل على أن معنى قوله تعالى: (النبيَّ الأمِّيَّ) أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان لا يقرأ ولا يكتب؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بدايةً، فقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تصف النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالأُمِّيّ، وقد اختلف المفسِّرون في معنى الأُمِّيّ، لكنْ ما عليه أكثر العلماء، أن المقصود بالأُمِّيِّ: أنه لا يقرأ ولا يكتب.
يقول الإمام القرطبيُّ -رحمه الله تعالى -في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن الكريم” عند تفسير هذه الآية: “قوله تعالى: (الأُمِّيَّ…) قال ابن عباس رضي الله عنه: “كان نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم أُمّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك) [سورة العنكبوت الآية: 48].” انتهى.
وقال الحافظ المفسِّر عماد الدين ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره عند تفسير هذه الآية قال: “قال الله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك) [سورة العنكبوت الآية: 48]. أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتيَ بهذا القرآن عمُراً لا تقرأ كتاباً ولا تُحسن الكتابة، بل كلُّ أحد من قومك وغيرهم، يعرف أنك رجل أُمِّيٌّ لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا صفته في الكتب المتقدِّمة، كما قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر..) [سورة الأعراف الآية:157].
وهكذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دائماً إلى يوم الدين لا يُحسن الكتابة ولا يَخُطُّ سطراً ولا حرفاً بيده، بل كان له كُتّاب يكتبون بين يده الوحيَ والرسائل إلى الأقاليم… قال الله تعالى: (وما كنت تتلوا) أي تقرأ (من قبله من كتاب) لتأكيد النفي (ولا تَخُطُّه بيمينك) تأكيد أيضاً.. وقوله تعالى: (إذًا لارتاب المـُبطلون) أي لو كنت تُحسنه – أي: الكتابة – لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلَّم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أُمِّيٌّ لا يُحسن الكتابة: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا)“. انتهى.
وقال عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة الجمعة الآية:2].قال القرطبيُّ – رحمه الله – في تفسير هذه الآية :” قيل: الأُمِّيوُّن الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش.
وروى منصور عن إبراهيم قال: الأُمِّيُّ الذي يقرأ ولا يكتب. (رسولاً منهم) يعني محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم.. وكان أُمّياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلَّم صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال الماورديُّ: فإنْ قيل: ما وجه الامتنان في أنْ بُعث نبيًّا أُميّاً؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: لموافقته ما تقدَّمت به بشارة الأنبياء.
الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم – أي: قريش-، فيكون أقرب إلى موافقتهم.
الثالث: لينتفيَ عنه سوءُ الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحِكم التي تلاها. قلت ــ أي الإمام القرطبيُّ ـــ: وهذا كلُّه دليل معجزته وصدق نبوته. انتهى باختصار.
وقد ذكر العلَّامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره: “التحرير والتنوير” هذه الأوجه الثلاثة، ثم قال – رحمه الله تعالى -: “والأُمِّيَّةُ وصف خصَّ الله به مِنْ رسله محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأُمِّيَّةَ وصفاً ذاتياً له، ليتمَّ بها وصفُه الذاتيُّ وهو الرسالة، ليظهر أن كماله النفسانيَّ كمال لدُنِّي إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصفَ نقصان؛ لأنه لما حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كلِّ نواحي معرفةِ الكمالات الحق، وكان على يقين مِنْ علمه، وبيِّنة من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلِّمين، صارت أمِّيته آيةً على كون ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهية.” انتهى.
وعليه: فما أوردناه من نصوص وأقوال أهل العلم كفاية في تبيان أن المراد من الأُمِّي: أنه الذي لا يقرأ ولا يكتب. فالأُمِّيَّةُ وصف كمالٍ فيه صلَّى الله عليه وسلَّم، مع أنها في غيره وصف نقصان، فأمِّيته آية على أن ما بلَّغه صلَّى الله عليه وسلَّم إنما هو وحي من الله تعالى وفيوضات إلهية. والله تعالى أعلم.