وجدتُ فيديو لشيخ ينكر فيه موضوع الجواري، حيث يوجد أشخاص تأثروا بكلامه
الفتوى رقم 4082 السؤال: السلام عليكم، وجدتُ فيديو لشيخ ينكر فيه موضوع الجواري، حيث يوجد أشخاص تأثروا بكلامه، فما الردّ عليه؟
الجواب، وبالله تعالى التوفيق:
بداية، وبعد اطّلاعنا على المقطع المــُشار إليه، فإن ما ذكره صاحب هذا المقطع مجتزأ، وكان ينبغي عليه -وهو يزعم أنه داعية إلى الإسلام- أن يذكر هذه المسألة بكامل شروطها وأحكامها.
واعلم -أخي السائل- أن هذه المسألة شبهة هي من أخبث ما يثيره أعداء الإسلام؛ لزلزلة عقائد المسلمين خاصة الشباب منهم. يقول الدكتور عبد الجبار فتحي زيدان في مقالة له عن الجواري: “والرّق -ومنه مسألة الجواري- كان مباحًا ومشروعًا وشائعًا قبل الإسلام، وقد ذكرَتْه الكتب السماوية، فهاجرُ جاريةٌ تزوَّجها إبراهيمُ -عليه الصلاة والسلام- وقد كان من نسلِها إسماعيل عليه السلام، ومن نسل إسماعيلَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم.
واسترقاق النساء وجعلُهنّ جواريَ انتشر قديمًا -قبل الإسلام-؛ لثلاثة أسباب:
1ــــ الحروب، فكانت إذا قامت حرب بين دولتين، فإن الدولة الغالبة المنتصرة تقتل رجال الدولة المغلوبة وشبابها، ويبقى النساء والبنات، فتجلبهنّ إلى بلادها أسيرات تبيعهنّ لمن يرغب في شرائهنّ.
2ــــ الفقر، فقد كانت شدّة الفقر تدفع أحيانًا بعض الآباء إلى بيع بناتهم.
3ــــ الاختطاف، فكان ثمة لصوص يخرجون إلى القوافل التجارية في الطرق البعيدة، أو يصعدون إلى السفن العائمة وسط البحار، فيخطفون ما شاؤوا من النساء والبنات ويبيعونهنّ في المدن في أسواق بيع العبيد.
وعندما بُعث سيِّدُنا محمدٌّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم -جاء بالإسلام- الذي حرَّم استرقاق النساء والبنات اللواتي يؤتى بهنّ عن طريق البيع أو الاختطاف، وأجاز فحسب -ولم يأمر- استرقاقَ أسيراتِ الحرب، وقد أجاز ذلك؛ لأن الدول المعادية للإسلام كانت تغزو المدن الإسلامية فتقتل الرجال والشباب وتسبي نساءهم وبناتِهم، وتأتي بهنّ أسيرات وتبيعهن لكلِّ غادٍ ورائح، فيأخذ الرجل الكافر والمشرك ما شاء من النساء والبنات المسلمات، وتُمسي كلٌّ منهنّ متاعًا مباحًا مشاعًا يعاملونهنّ كما تُعامل المرأة الزانية، فقد يشترك في جماع المرأة المسلمة الأسيرة الرجلُ وأبناؤه وإخوانه وأصدقاؤه؛ من أجل ذلك أباح الإسلام بالمثل استرقاقَ النساء الكافرات اللواتي يؤتى بهنّ بعد الحرب، إلا أن ثمة فرقًا كبيرًا بين معاملة المسلمين للجواري غير المسلمات ومعاملة الكفار للأسيرات المسلمات، فقد شرع الفقهُ الإسلامي كيفية وجوب أن يُعامِل السيِّدُ المسلم عبيده، ذكورًا كانوا أم إناثًا، وجعل لهم حقوقًا كثيرة، نُجمِل فيما يأتي عددًا منها:
1 ـــ لا يجوز للسيِّد أن يأمر عبده بمعصية الله، أو ينهاه عن طاعته.
2 ـــ ليس له حقٌ في إجبار عبده الكافر أن يُسلِم؛ لأنه لا إكراه في الدين.
3 ــــ ليس له حق أن يزوِّج عبدَه بمن لا يرضاها، أو يجبره على تطليق زوجته.
4 ـــ ليس له حق أن يمنع عبده الذمّي -اليهوديَّ والنصرانيَّ- من شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير، أو الذَّهاب إلى الكنيسة؛ لأن ذلك من دينه.
5 ــــ لا يجوز أن يُكلِّف عبده أو أَمَتَه بالقيام بأعمال شاقَّة تفوق طاقتهما.
6 ــــ يجب على السيِّد المسلم أن يحافظ على حياة عبده، فليس له أن يقتل عبده، أو يجرحه، أو يقطع شيئًا من أعضائه؛ كقطع أذنه، أو جدع أنفه على الوجه، فإنْ فَعَلَ السيِّدُ بعبده شيئًا من ذلك، وجب عليه أن يُعتق عبده؛ أي: أن يُطلق سراحه بأمر إجباري من القاضي.
7 ـــ للعبد على سيِّده نفقة واجبة، طعامه وكسوته وسكنه، قَدْرَ حاجتِه وكفايته، فإن امتنع السيِّدُ من دفع النفقة لعدم القدرة، أو رفض دفعها مع القدرة، فللقاضي الحقُّ في أن يبيع ممتلكات السيد لتأمين النفقة على عبيده.
8 ــــ على السيّد إذا مرض عبده، أو عجز عن العمل لسبب ما، أن ينفق عليه، كما يجب عليه أن ينفق على عبده الصغير، وعلى السيّد نفقاتُ دفنه.
9 ــــ على السيّد أن يجعل عبده عفيفًا، فإذا كان العبد رجلاً أعزَب، وجب عليه أن يزوِّجه خشية انحرافه، وإذا كان العبد امرأةً عزباء، وجب عليه أن يزوِّجها، أو أن يطأها هو خشية انحرافها، أما إذا كان العبد متزوجًا، فعليه أن يمكِّنه من الاستمتاع بزوجته ليلاً.
10 ــــ ليس للسيّد الحقُّ أن يُجبِر أَمَته المتزوجة على تطليق زوجها، أو منعها من المبيت معه ليلاً.
فتأمل أخي القارئ كيف كان يعامل أعداؤنا أسرانا وسبايانا، وكيف كنا نحن نعامل أسراهم وسباياهم..
وأيضاً فالإسلام منع أن تكون الجارية متاعًا مشاعًا، فأوجب أن تكون الجارية ملكًا لرجل واحد، إذا توافرت شروط المعاشرة جاز له وحده دون غيره بل حرَّم أن يُجامِعَهن غيره، كما أوجب الإسلام على السيّد أن يُنفِق عليهن وأن يُكرمهنّ، كما حثَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم على الزواج بهن، ليُصبِحن حرَّات سيّدات، كما حث ورغَّب في تعليمِهنّ وتأديبهنّ، ونهى عن ضربهنّ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “مَن كانَتْ له جارِيَةٌ فَعالَها، فأحْسَنَ إلَيْها ثُمَّ أعْتَقَها وتَزَوَّجَها كانَ له أجْرانِ”. رواه البخاري.
فهذا التشريع هو خيرٌ لهنّ من أن يُترَكن يتسكَّعن في الطرقات والشوارع، ولا مُعيل لهنّ؛ أي أن الإسلام شرع ملك اليمين واسترقاق الجواري؛ حرصًا على مصلحتهن وخوفًا عليهن من أن يتشرَّدن فيتعرَّضن للإهانة في شرفهن وكرامتهن، كما أن في هذا التشريع حفظًا للبلاد من انتشار الفساد إذا تُركنَ بغير مُعِيل يُعيلهن ولا راعٍ يرعى شؤونهن، فما أعظم هذا الدين، وما أرحمه، وما أسمى معاملته حتى مع ألد أعدائه! واسترقاق الجواري يُشرع عند وجود أسبابه، وقد انمحت هذه الأسباب في الوقت الحالي….. ومَن راجع النصوص الشرعية في القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف، وما ذكره أهل الفقه يجد عظمة الإسلام في الحثِّ على التخلُّص من الجواري والعبيد، والترغيب بالأجر والثواب على ذلك: قال الله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [سورة البلد الآيات: 11-14]، و(فك رقبة) تحرير عبد من سيِّده في سبيل الله. روى الدارقطنيُّ في سننه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يُدخلني الجنة، فقال: عتق النَّسَمة، وفكُّ الرقبة، فقال: يا رسول الله، أوليستا واحدًا؟ أي: أليس عتق النَّسَمة وفكُّ الرقبة معناهما واحد، فقال: لا، عتق النَّسَمة أن تفرَّد بعتقها، وفكُّ الرقبة أن تعين في ثمنها”.
جعل الإسلام كفَّارة الـحِنْثِ في اليمين؛ أي: يحلف بالله على فعل شيء ولم يفعله، جعل الإسلام كفَّارةَ ذلك أمورًا من بينها عتق الرقبة، فقال الله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [سورة المائدة الآية: 89]. وكذلك جعل الإسلام كفَّارة الظِّهار وهو أن يقول الرجل لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أنه جعل كفَّارة ذلك لِتَحِلَّ له زوجتُه عتقَ رقبة، فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة المجادلة الآية: 3]. وأيضاً جعل القرآن الكريم كفَّارة القتل الخطأ تحرير رقبة، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [سورة النساء الآية: 92].
وجعل الإسلام مَن نذر أن يحرِّر رقبةً وجب عليه الوفاء بنذرِه، فهذه الذنوب التي كثيرًا ما يقع فيها الناس حين جعل الإسلامُ كفَّارتَها عتق العبيد، أدى ذلك إلى تحرير عدد كبير منهم، فالإسلام بهذا التشريع ضيَّق من مصادر الرِّقّ، وفتح للرقيق أبواب التحرير، بل نستطيع أن نقول في هذا الصدد: إن أمريكا وأوروبا أَلْغَتا الرقَّ في مجال الدستور، ولكن لم تُلغياه في مجال الواقع والتطبيق، في حين أن الإسلام وإن لم يلغِ الرِّقَّ في مجال الدستور إلا أنه ألغاه في ميدان العمل والمعاملة، وهذا هو المهم، وقد شرع الإسلام في هذا الميدان مبدأين: أولهما: مبدأ الـمُكاتبة: شرع الإسلام مبدأ المكاتبة، وهو منح الحرية للعبد متى ما طلبها بنفسه مقابل مبلغ من المال، وهذا الأمر ثابت في نصِّ القرآن، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [سورة النور الآية: 33].
وعتق العبيد هنا -أي: تحريرهم- أمر إجباري، لا يملك السيِّد رفضَه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه، وإلا تدخَّلتِ الدولة الإسلامية -القاضي أو الحاكم- لتنفيذ عتق العبد بالقوة. وبتقرير مبدأ المكاتبة يكون الإسلام قد فتح في الواقع بابَ تحريرِ العبد متى ما رغِب العبد في ذلك، ولم ينتظر من سيِّده ليمنَّ عليه بتحريره، والدولة تساعده بتسديد هذا المبلغ كلِّه أو شيءٍ من أدائه، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة الآية: 60]، وفي الرقاب: هم العبيد.
بل الإسلام بتقريرِ هذا المبدأ قد ألغى الرِّقَّ في الحقيقة والواقع والتطبيق، أو بتعبير أدق إنه قد ألغى الرِّقَّ من قِبل الدولة ومن قِبل السيّد، وبقي إلغاء الرِّقِّ مَنوطًا فقط بالعبد نفسه”. انتهى.
وعليه: فما نقلناه من كلام لأهل العلم فيه كفاية في توضيح هذه الشبهة وردِّها. والله تعالى أعلم.