هناك مقولة تقول أن القرآن الكريم نزل بقراءة واحدة وأن ما تفرع عنها هو رخصة من الله للصحابة يقرأونها حسب المعنى أو حسب ما تقتضيه لغات قبائلهم وألسنتهم هل هذا صحيح؟

فتوى رقم 4140 السؤال: السلام عليكم، ثمة مَن يقول: ليس كلُّ ما يُقرأ به في القراءات العشر اليوم قد علّمه جبريلُ – عليه السلام- النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بل مردُّ أَوجه القراءات إلى القراءة بالمعنى والمرادف، وإن لم يكن مسموعًا من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يكن علَّمه جبريلُ – عليه السلام- النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بل كان مرخَّصًا لهم القراءة في ذلك.
وذلك أن جبريل -عليه السلام- لم يعلِّم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم القرآن الكريم إلا على حرف واحد لفظًا.

وأما الأحرف الأخرى فهي رخصة من الله تعالى أن يقرأ بها الصحابة حسب المعنى، أو ما تقتضيه لغات قبائلهم وألسنتهم.

وأن هذه الأحرف المرخَّص فيها وجدت سبيلًا إلى القراءات العشرة التي يقرأ بها المسلمون، ما دامت موافقة للمصاحف العثمانية، ولكنْ كلُّ ما صحَّ عن القرَّاء العشرة من هذه القراءات – والتي لم يعلِّمها جبريلُ- عليه السلام- النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم- فله قدسيَّة القرآن؛ لأن الله تعالى هو الذي أَذِنَ أن تُقرأ هكذا وهكذا، وتُعتبر منزَّلة؛ من حيث إن الله أنزل الرخصة والإذن بأن تُقرأ هكذا وهكذا.
وهذا معنى حديث: “أُنزل القرآنُ على سبعة أحرف”.

وأما النصوص التي فيها التصريح بأن الله أنزل القرآن على سبعة أحرف فليس معناها ما يتبادر إلى الذهن من أن جبريل -عليه السلام- علّمه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم نصًّا ولفظًا.

فالكلام الذي نزل به جبريل -عليه السلام- وعلَّمه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم – لفظًا ونصّا- هو وجه واحد فقط، وباقي الأوجه اجتهاد مأذون فيه.

واللفظ الذي نزل به جبريلُ موجود ومحفوظ ضمن القراءات العشرة. فمثلًا: قراءة (فتبيَّنوا)، وقراءة (فتثبَّتوا)، إحداهما علَّمها جبريلُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والأخرى قُرئ بها بالمعنى أو المرادف وفق “رخصة الأحرف السبعة”.

فما حكم هذا القول؟

الجواب، وبالله تعالى التوفيق:

فإن المفهوم من نصّ المسألة أن مردَّ القراءات إنما هو إلى القراءة بالمعنى المرادف وحسب، وأن معرفة هذا المعنى إنما كان باجتهاد خاصٍّ صدر عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك تبعًا للغات قبائلهم ولهْجاتها، وأن ذلك كان رخصة من الله تعالى لأولئك الصحابة، وأن الواقع يقرّر أن جبريل عليه السلام إنما أقرأ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قراءة واحدة، ثم إن قراءات الصحابة -باجتهادهم وترخُّصهم- هي التي وجدت مسلكًا إلى القرّاء، فتلقَّوها، ومن ثَمَّ لقّنوها للرواة عنهم، وأن تلك القراءات –مع كونها كذلك- فإن لها قدسية القرآن تمامًا كالقراءة الوحيدة التي أقرأها جبريل عليه السلام النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
فنقول –ابتداء- إن تلك المقولات قد حوَتْ مغالطات قد يكون مردّها إلى قلةِ معرفةٍ بماهية القراءات، وإلى خلط بينها وبين الأحرف، وكذلك إلى عدم درايةٍ باتصال الأسانيد بتلك القراءات إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس إلى الصحابة وحسب، هذا إذا حملنا صدور هذه المقولات عن قائلها محملَ حُسن النية في الاجتهاد، وإلا فقد يكون المراد من هذا ومثله التشكيك في أصل نقل القرآن الكريم إلينا، وأن ما تواتر أو اشتهر من هذا النقل قد اختلط باجتهادات من الصحابة رضي الله عنهم! فما المانع عندئذ من الاشتباه عند عموم المسلمين في كتابهم بتمامه؟! لتنتفيَ في أذهانهم بعدها القدسيةُ التي تحدَّث عنها صاحب المقولات.
والردّ على تلك المقولات من وجوه:
أولًا: أن المرويّ من القراءات هو جميعه ضمن الأحرف السبعة، لكنه لا يقتصر على معانٍ مترادفة –كما ذكر في تلك المقولات-؛ فالأوجه التي قد يقع فيها التغاير من تلك القراءات –على ما بيَّنه العلَّامة عبد الفتَّاح القاضي، كما في “الوافي في شرح الشاطبية” (ص5 وما بعدها) أنها تشمل اختلاف الأسماء (إفرادًا، وتثنية، وجمعًا، وتذكيرًا، وتأنيثًا)، كما اختلاف الأفعال (ماضيًا ومضارعًا وأمرًا)، واختلافًا في وجوه الإعراب (بين رفع وخفض ونصب وجزم)، والاختلاف في النقص والزيادة، وفي التقديم والتأخير، وفي جعل حرف مكان حرف (الإبدال)، وفي اختلاف اللهجات (ما بين تفخيم وترقيق، وفتح وإمالة، وتسهيل همزٍ وتحقيقه..).


ثانيًا: أن الاجتهاد في معرفة القراءات –لو كان مرخَّصًا به- فإنه ينبغي أن يكون متاحًا عندئذ لكافة الصحابة، لا لبعضهم، علمًا أن بعضهم رضي الله عنهم أعلم من بعض، فما ضابط قبول الاجتهاد عندئذ؟ ومن يجتهد منهم، ومن لا يجتهد؟!


ثالثًا: أن القراءات المتواترة أو المشتهرة قد تلقاها أئمة القراءات بسند متصل إلى قراء الصحابة رضي الله عنهم، لكنْ مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لا موقوفة إلى الصحابي بحسب اجتهاده في معرفة القراءة.

رابعًا: أما معنى حديث: “أقرأني جبريلُ على حرف فراجعته فزادني، فلم أَزَلْ أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف” متفق عليه، وحديث: “إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه”، فقد فُسِّر معنى هذه الأحرف تفسيرات عدَّة، ولعلّ الأمثل في معنى هذا ما بيَّنه الإمام الداني –رحمه الله- في “الأحرف السبعة للقرآن” (ص53)؛ من أن: “القراءات كلها والأوجه بأسرها من اللغات، وأنها هي التي أُنزل القرآن عليها، وقرأ بها، وأباح الله تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم القراءةَ بجميعها، وصوَّب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم مَن قرأ ببعضها من الصحابة دون بعض”.

فالحاصل أن ثمة سبعة أوجه؛ لأن “الحرف” لغة معناه الوجه، والمراد بالوجه لغةٌ نطقت بها قبائل العرب، وهي معروفة عندهم، فوجهٌ بلغة قريش، وآخر بلغة هوازن، أو هُذَيل.. وهكذا، وليس المقصود أن يكون في الحرف الواحد (لغة قريش مثلًا سبعة أوجه أو ألفاظ)، ومعلوم أن أكثر الأوجه كانت فعلًا بلغة أو بلسان قريش، لذا فقد اجتهد عثمان رضي الله عنه عند جمعه للمصحف باعتماد لغتهم – أي لغة قريش – عند الاختلاف في لفظة بأي لغة قبيلة نزلت؟ لكنْ بقيت فيه ألفاظ على غير لغة قريش، حيث لم يُختلف بين الصحابة أنها نزلت بلغة اليمن مثلًا، أو بلغة هوازن، أو غير ذلك، فأثبتوها باللغة التي لم يختلفوا على كونها منها.
وقد كان إنزال القرآن على أحرف (لغات) لم تزد عن السبعة، الغاية منه التوسيع بتلاوته على القارئ، فيقرأ على أوجه عدّة، لكنها لا تخرج جمعيها عن كونها سبعة.
فالقول بأن جبريل عليه السلام لم يُقرئ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا على حرف واحد قول منافٍ لصريح حديث استزادة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المتقدِّم، ومنافٍ أيضاً للحكمة من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ألا وهي التيسير، توسعةً من الله تعالى على عباده، ورحمةً لهم، وتخفيفًا عنهم، كما في ختام حديث: “إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه”.
وعليه: فإن المقولات التي نقلها السائل مجانبة للصواب؛ إنْ من جهة النصوص الصريحة الثابتة، أو من جهة ما قرّره أهل الصَّنعة في علم القراءة.
ودعواتٌ مثل هذه قد يكون المراد بها –كما أسلفنا- التشكيك في صحة نقل القرآن إلينا، والتشكيك في قدسية النصِّ القرآني، بما أن بعضه منزّل منقول إلينا من وجه واحد، وبعضه الآخر مجتَهَدٌ في تحديد كلماته باجتهاد مرخَّص فيه سُمّي –زورًا- رخصة الأحرف السبعة.
والذي ننصح به أنْ حذارِ حذارِ من تلك الدعوات تلقُّفًا لها أو نشرًا، بما يُسيء إلى قدسيَّة القرآن ويشكِّك المسلمين بكتاب ربّهم. والله تعالى أعلم.

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *