حكم الجناية العمد على ما دون النفس وتقدير الأرش والتعويض المالي في الإصابات المتعمّدة

فتوى رقم 5075 السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرفع إلى سماحتكم هذه المسألة، راجين منكم التوجيه بما ترونه مناسبًا شرعًا وعدلًا: أُصيب أحد أقاربنا بطلقٍ ناري متعمَّد من قريبٍ له، وكلاهما من رعاة الغنم. وقد نتج عن الحادثة الأمور الآتية:

  1. إصابة بالغة في اليد، أفادت التقارير الطبية بأنها لن تعود إلى حالتها الطبيعية.
  2. اختراق الرصاصة للخاصرة وإصابة العمود الفقري، مما تسبَّب في وجود “شُعر (كسر طفيف)” في العظم، دون أن يُخلّف ضررًا كبيرًا في تلك المنطقة.
  3. توقُّف المصاب عن العمل لمدة شهرين حتى الآن، ويُتوقع أن يحتاج إلى قرابة عام من الراحة والعلاج في المنزل.
  4. تأثُّر مصدر دخله الأساسي (رعاية الغنم)، مما أدى إلى ضرر مادي ومعنوي كبير.
  5. تحمُّل الطرفين لتكاليف العلاج، حيث دفع الجاني جزءًا، وتحمّل المصاب الجزء الآخر.
  6. الأثر النفسي والمعنوي الناتج عن الحادثة.
  7. ثبوت العَمد في الإصابة.

نرغب في معالجة هذه القضية بالصلح بين الطرفين، ونسعى إلى تقدير تعويض مالي عادل يُرضي الطرف المصاب، ويُراعي في الوقت ذاته حال الطرف المتسبِّب، آخذين في الاعتبار ما يلي:

  • الأذى الدائم في اليد.
  • مدة التعطيل عن العمل.
  • التكاليف الطبية التي تكبّدها الطرفان.
  • الأثر النفسي والمعنوي.
  • كون الإصابة وقعت عمدًا.

نلجأ إليكم لما عهدناه فيكم من علم وعدالة وحكمة، سائلين الله أن يوفِّق الجميع لما فيه الخير والإصلاح.

الجواب، وبالله تعالى التوفيق:

صورة المسألة شخص أطلق النار على آخرَ متعمِّداً ونتج عنه إصابة في اليد أدت إلى إصابتها بضرر دائم وإصابة أيضاً في الخاصرة والعمود الفقري، وأحدثت  شُعراً (كسراً طفيفاً) في العظم من دون أن تُخلّف ضررًا كبيرًا . بداية فإن هذه الحالة تدخل تحت مسمَّى الجناية عمداً على ما دون النفس. وقد أجمع العلماء على أن الجناية عمداً على ما دون النفس يجب فيها القصاص ما لم يُخش فيه تلف النفس، فحينئذ يكون الواجب الدية، والدليل على وجوب القصاص فيما دون النفس الكتاب والسنَّة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة:45]. وفي الصحيحَيْن من حديث أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ – وهي عَمَّةُ أنسِ بنِ مالكٍ – ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَأَمَرَ بالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ – عمُّ أنسِ بنِ مالكٍ – لا وَاللَّهِ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ». فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ». يقول العلَّامة ابنُ قدامةَ المقدسيُّ -رحمه الله تعالى- في كتابه “المغني” (9/ 410و411): “وأجمع المسلمون على جريان القِصاص فيما دون النفس إذا أمكن، ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص، فكان كالنفس في وجوبه. ويُشترط لوجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء؛ أحدها: أن يكون عمداً محضاً… .الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حَيف ولا زيادة؛ لأن الله تعالى قال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل: الآية 126]. وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة: الآية 194]،ولأن دم الجاني معصوم إلا في قَدْرِ جنايته، فما زاد عليها يبقى على العصمة، فيَحرم استيفاؤه بعد الجناية، كتحريمه قبلها، ومن ضرورة المنع من الزيادة، المنع من القصاص؛ لأنها من لوازمه، فلا يمكن المنع منها إلا بالمنع منه. وهذا لا خلافَ فيه نعلمه” انتهى. وبما أن الجناية هنا لا ديةَ فيها على اعتبار أنها ليست إبطالاً لعضو كامل أو إذهابًا لمنفعته، فالواجب فيها حينئذ الأَرْش. والأَرْش هو المال الواجب (تعويض) في الجناية على ما دون النفس وليس فيها مقدار معيَّن من المال. بتصرف يسير من الموسوعة الفقهية (3/104). والأصل أن يقدَّر الأَرْش بنسبة الضرر الذي لحقه من مجمل ديةِ اليد –بحسب السؤال -في الأصل يعني إن فقد 20% بالمئة من منفعة يده فيكون له بهذه النسبة من دية اليد، وهي كما نصَّ الفقهاء في كتبهم المعتمدة واتفقوا على أنها خمسون من الإبل، لما روي من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه: “وفي اليدين الدية، وفي اليد خمسون من الإبل” رواه النَّسائيُّ وصحَّحه أحمدُ وابن حبان والحاكم. وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية على موقعها الإلكتروني (فتوى رقم 4452): “بأن أقل قيمةٍ لصنفٍ من أصناف الدية هو في الفضة أي في الدراهم، والدية بالدراهم اثنا عشر ألفًا، ولا بأس من الأخذ بذلك؛ لأن الأصل براءة الذمة فيما زاد عليها، والدرهم عند الجمهور 2.975 جرامًا تقريبًا، فيكون جملة ما هنالك 35 كيلو جرامًا و700 جرامٍ من الفضة الخالصة؛ تقوَّم هذه الكمية بسعر السوق طبقًا ليوم ثبوت الحق رضاءً أو قضاءً. فيكون نصف الدية حينئذٍ 17 كيلوجرامًا و850 جرامًا؛ وهو المستحق في فَقْدِ إحدى الذراعين” .انتهى.

ونصَّ الفقهاء على جواز التصالح في أمر أَرْشِ الجناية المذكورة بالعفو أو بقبول قيمةٍ أقل هو أمرٌ مشروعٌ مستدلين بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [سورة البقرة الآية: 178]، ويقول تعالى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [سورة المائدة الآية: 45].

وعليه: فالذي نراه أن يقدَّر الأَرْشُ باعتبار ما ذكرَتْه دار الإفتاء المصرية من مقدار دية اليد بحسب الضرر الذي يقدِّره أهل الاختصاص بالإصابة الحاصلة للمجني عليه، ويضمن الجاني كافة النفقات الطبية المستحقة أثناء مدة العلاج من دون إفراط أو تفريط، وما يحتاجه من نفقات أدوية وطعام وشراب في مدة العلاج كاملة. والله تعالى أعلم.

تنبيه: هذه الإجابة هي فتوى تبيِّن رأياً فقهيًّا معتبراً، إلا أنها تبقى غير ملزِمة، ولا تعلُّق لها بالحكم القضائي، كما أنها لا تُعتبر -بحال من الأحوال- تحكيماً فيما بين الجاني والمجنيِّ عليه.

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *