بعثة النبي ﷺ.. والنور للبشرية
بالتأكيد واليقين جاء النبي ﷺ إلى الوجود ومعه النور الذي به أضاءت الدنيا بعد ظلام، وارتقت بعد انحطاط وإسفاف.. ولقد كان (الانقلاب الإسلامي الحضاري) على يديه ﷺ كفيلًا بعدِّه صلى الله عليه وسلم أعظم عظماء التاريخ، وكان بحقّ انقلابًا حقيقيًّا بعيدَ الغَوْر، متّسعَ الشمول، ممتدّ الأثر، جذريَّ التغيير، متميِّزَ النُّبْل في خيريّته للبشرية..
وإذا كان السياسيون وعلماء الاجتماع قد اختلفوا في تحديد: ما هي الثورة ؟ ومقوّماتُها؟ إلا أنّ الإسلام بلا شكّ أحدث انقلابًا جذريًّا شاملًا وكان بحقّ أُمَّ الثورات في التاريخ الفكري والحضاري، ومضمونُها هو ما يحتاجه عالَمُنا المعاصر.. وبهذه بالمناسبة كان المستشرق الإنكليزي برنارد لويس، وهو من أخطر المستشرقين وأدهاهم وأوسعهم خبرةً بدهاليز السياسة، قد عنون في كتابه الخطير (الغرب والشرق الأوسط) فصلاً بعنوان: ثورة الإسلام!
خاصّة أن إحدى أخطر حقائق العصر : أن الحضارة الغربية قد أفلست إفلاساً كاملاً في إدارة دفّة العالم !! وما النزاعات الدولية المهدِّدة بتدمير الحجر والبشر والحروب المستعِرّة في عدد من الدول وتصاعد نِسَب جرائم القتل والاغتصاب والانتحار وتعاطي الـمُخدِّرات بمعدّلات مخيفة.. إلا شواهد على هذه الحقيقة التي نطق بها أحد أبناء هذه الحضارة والعارفين المتعمّقين بأحوالها الفيلسوف والمفكر الفرنسي (روجيه دو باسكييه) في قوله:
«لا بد أن المادية الغربية الجامحة إن استمرّت لن تنتهي إلا بتدمير الإنسان».
فالحقيقة المُرّة أن البشرية تمرّ في حالة احتضار قِيَمي مع آلام قاسية يُعاني منها إنسانُها بسبب إفلاسِ الحضارة التي تقودها.. إفلاسِها بمعيار الوجهة الصحيحة في علاقة الإنسان بخالقه وفهمِ مقصد وجودِه، وفي علاقته بالكون، وبمعيار الأخلاق والقِيَم، طبعًا غير غافلين عن تقدُّمها المذهل في عالم التكنولوجيا والاتصالات والاكتشافات والعبقرية الإدارية!
وبالرجوع إلى تقارير عديدة صادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة عن معدَّلات الجرائم وانتشار المخدِّرات، وعن ظروف السجون في العالم وتصدُّر الولايات المتحدة أعلى نسبة سُجَناء وارتفاع معدَّلات الاغتصاب في سجونها، والاطلاع كذلك على الأرقام المخيفة عن عدد القتلى والجرحى والمعوَّقين خلال قرن كامل ابتداءً من الحرب العالمية الأولى ونتائجها المدمّرة قبل أكثر من 100 عام، مروراً بالحرب العالمية الثانية وقنبلتَيْ هيروشيما ونكازاكي النوويّتَيْن، وجريمة الغرب الكبرى في فلسطين وتهجير شعبها، إلى المخاوف من دمار نووي مفزع يأكل الأخضر واليابس قد تصل إليه الحرب الوحشية القائمة الآن الروسية – الأوكرانية، عدا الحروب والنزاعات داخل العديد من الدول خاصة الدول التي يفتك في شعوبها طغاةٌ مجرمون لئلا تنال حريتها كما هو حال عدد من الدول العربية!
يتأكد لدينا أن البشرية عادت إلى همجيتها ووحشيتها وخُلوّها من القيم يوم ابتعدت عن هَدْي السماء يشبه تمامًا ما عبَّر عنه الصحابي الخطيب المفوَّه سيِّدُنا جعفر بن أبي طالب ﷺ عندما قال في موقف من أروع مواقف التاريخ والمكاشفة الصريحة لملِك الحبشة عندما استفسره عما جاء به الرجل الذي يدعو إلى دين جديد : “كنا قوماً أهلَ جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الـمَيتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيئَ الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف”(لنتأمّل حال الدول القوية الغنية والدول الفقيرة في القرن العشرين والعقدين اللذين مرّا من هذا القرن الواحد والعشرين !!)يُكمِل رضي الله عنه : “فكنّا على ذلك حتى بعث اللهُ إلينا رسولا..”!!!
من هنا يجب أن نُعلن بعزة وثقة أوضح نداء ونبلّغ واحدًا من أصدق الأخبار وأوثقِها وأشدِّها تأثيراً على مستقبل المسلمين بل مستقبل البشرية، وهو: أن رسالة نبيّنا ﷺ هي التي ستردّ للمسلمين وللبشرية قاطبة الحياة الحقيقية الطيبة الهانئة الآمنة من جديد، وهو ما طالبنا به الله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال، 24]، ووعدنا به عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ﴾ [النحل، 97].
ولكن لن يُعطي العالَم سَمْعَه لهذا النداء إلا عندما يتقدم المسلمون الصالحون من عرب أو أجانب بوعي وهِمّة وتميُّز في الخُلُق وصلة صادقة مع الله تُنقذ الروح من الشقاء، وجِدّ في عقلية الأخذ بالأسباب بإتقان..
فهل نعي مسؤولياتنا ؟ ونحقق التغيير المنشود الذي حققه الإسلام في الميادين الأربعة التالية عندما جاء أول مرة؟
● الميدان الأول: العقيدة والفكر فحارَبَ الوثنية والشرك والخُرافة وحقَّقَ للإنسان أعظم ما يتماهى مع كرامته الإنسانية، وهو توحيدُ الله الخالق وعبوديتُه وإفرادُه بالحاكمية، ﴿إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ﴾ [يوسف، 40]… في آيات أخرى كثيرة جداً.
● والميدان الثاني: فلسفةُ الحياة، وفهمُ الإنسان لمقصِدِ وجوده فيها ومكانةِ الدنيا من الآخرة، ومهمتُه في العُمران الحضاري في رحلة الامتحان التي يقضيها على الأرض.
● والميدان الثالث: عالَم الأخلاق.. حيث ارتقى (الإسلام) بالإنسان إلى آفاق مُذهلة في النُّبْل والرحمة والعدل والمشاعر الإنسانية، ليزهُوَ التاريخُ بتفرُّد أخلاق أجيال المسلمين الأولى التي هي من أثر أخلاق النبي ﷺ.. أخلاقِهِ التي عُدَّتْ إحدى أهم مقاييس اختياره عليه الصلاة والسلام أعظمَ عظماء التاريخ الإنساني، حتى عند الدارسين الغربيّين، فمثلًا اعترف المفكِّر الفرنسي القانوني مارسيل بوازار في كتابه «إنسانية الإسلام» ص46 اعترافاً مُهمّاً عندما قال: “لا بدّ أن يكون محمد – الذي عرف كيف يَنتزِعُ رضا أوسعِ الجماهير – إنساناً فوق مستوى البشر حقاً، ولا بدّ أن يكون نبيّاً حقيقياً من أنبياء الله”، ونحوه اعتراف عالم الفيزياء اليهودي الأمريكي (مايكل هارت) في كتابه “المئة الخالدون” في سياق تعداده لأسباب اختيار محمد نبيّ المسلمين الأول على المئة الذين اختارهم !
صلوات الله وسلامه عليه، علماً أننا نحن المسلمين تُغنينا شهادة الله رب العالمين عن شهادة آخرين..
● والميدان الرابع: نظام الحكم لأن الإسلام دينٌ ودولة، وعبادةٌ وحُكْم.. ولقد أحدث الإسلام في مجال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفي العلاقات الدَّوْلية وفلسفة الحروب والفتوحات انقلابًا إنسانيًّا وسياسيًّا تفتخر به البشرية.
لكن كل ما تقدم لا ينبغي أن نقتصر فيه على التغنِّي بالأمجاد وقراءة صفحات التاريخ… بل يجب أن نُنتِجه من جديد وهو ما تنتظره البشرية بفارغ الصبر من (قوةٍ رحيمةٍ عادلةٍ) يطرحها دعاتُها لتُنقذها من وَهْدَتها وعذابها !
وليسمَعْ المسلمون مليًّا كلام أول بريطاني ترجم معانيَ القرآن الكريم إلى الإنكليزية أدق ترجمة وأبلغَها وكان قد اهتدى وأسلم وهو البحّاثة مارمادوك باكثوال (متوفى عام 1936م رحمه الله): «يمكن للمسلمين أن ينشروا حضارتهم في العالم بالسرعة نفسِها التي نشروها سابقاً بشرط أن يرجعوا إلى أخلاقهم السابقة، لأن هذا العالَم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم».
وهـــا إنّــا وإنْ كــنّــا غَفَلنا * فإنّا بعد صَحْوتنـا نقـولُ
هو الإسلام دينُ الله يَبْقَى * ويحمل صَرْحَه جيلٌ فجيلُ
الشيخ حسن قاطرجي
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام